كن في الدنيا كأنك غريب!

كن في الدنيا كأنك غريب

 

كن في الدنيا كأنك غريب

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 أمَّا بعدُ: أيها الأحبة: لقد حثنا النبي- صلى الله عليه وسلم- على اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات، قبل الفوات، وحثنا على الاستعداد للآخرة، وعدم الاغترار بالدنيا.

فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: أخذ رسول الله  بمنكبي،فقال:" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ". وكان ابن عمر- رضي الله عنهما- يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)1

يقول ابن رجب -رحمه الله تعالى-2: هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيء جهازه للرحيل، قال-تعالى-:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}3 .

وكان علي بن أبي طالب يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

وجاء عن بعض الحكماء: عجب ممن الدنيا مولية عنة، والآخرة مقبلة إليه بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبة له: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة بأحسن ما بحضراتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى4.

وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كالغريب؛ مقيم في بلد غربة، همُّه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون حاله كالمسافر ليله و نهاره، يسير إلى بلد الإقامة، لا يقيم البتة..

كما أوصى النبيُّ  ابنَ عمر أن يكون في الدنيا على أحد تلك الحالين.

فهو غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه

أو ينزل نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة.. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن. لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطها منها، ووعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول.

وكان عطاء السلمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك. وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين.

فالمؤمن إذن سائر في دنياه يقطع منازل سفره، منزلاً منزلاً حتى ينتهي به ذلك إلى آخر منازل سفره؛ وهو الموت، وأول منازل إقامته وهو القبر.

 ومن علم أن هذه حاله في الدنيا، فلا غرو أن تكون همته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي  جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب. وقد قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة.5

اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصير برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 


 


1-البخاري كتاب الرقاق باب قول النبي كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل برقم (3759).  

2– جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (2/377-378) بتصرف وزيادات.

3– غافر:39.

4– الحلية: 5/292. 

5– جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (2/377-381).