النبي وأم معبد

النبي – صلى الله عليه وسلم – وأم

النبي – صلى الله عليه وسلم – وأم معبد1

 

الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه – فصلوات الله وسلامه عليه – أما بعد:

فإن قصة نزول النبي – صلى الله عليه وسلم – على أم معبد الخزاعية في طريق هجرته مشهورة في كتب السيرة وبعض كتب السنة، وأم معبد أسلمت مع زوجها أبو معبد وقد ذكرهما الحافظ بن حجر في كتابه "الإصابة" من جملة صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ قال: "أم معبد الخزاعية التي نزل عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – لما هاجر مشهورة بكنيتها، واسمها عاتكة بنت خالد…" انتهى.

وقال أيضاً: "وفي آخره – أي حديث أم معبد – عند البغوي قال عبد الملك: "بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت"، قال البخاري: "هذا مرسل"، وأبو معبد مات قبل النبي – صلى الله عليه وسلم -" انتهى، واسم أبي معبد – أكثم – قاله أبو الفتح الأزدي الموصلي في كتابه أسماء من يعرف بكنيته.

وهذه القصة فيها من الروعة والجمال ما يسبي العقول، ويريح النفوس، ويطمئن القلوب، ويثلج الصدور، لاسيما وأنت تشاهد جمال سيد الخلق، خير البرية، وأزكى البشرية؛ فتتمتع بجمال المشاهدة، وحلاوة النظر، ولذة الشوق للقاء والمرافقة في جنات النعيم، ثم تتأمل في تلك الصفات الخلقية التي وهبها الله نبينا – صلى الله عليه وسلم – فتشتاق لرؤيته، فإذا ما اشتاقت نفسك، ولهفت روحك؛ بحثت عن ما يوصلك إليها فتهرع إلى دواوين القرآن والسنة لترى كيف سبيل الوصول إليه، واللقاء به، فتجد أنه رهن إمكان رؤيته ومرافقته بأتباعه {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}2.

وكم يتمتع المحب للحبيب – صلى الله عليه وسلم – بقراءة هذا الوصف البليغ من أم معبد – رضي الله عنها – عندما يتنقل بين ثنايا السطور والأحرف والكلمات التي لو أنصفها الكتاب لما كتبوها إلا بماء الذهب لما تحمله في طياتها من معاني سامية، وأوصاف بديعة أبت إلا أن تتشرف وتتسم في ذات حبيبنا – صلى الله عليه وسلم – لتحوز على شرف الانتساب إليه، والالتصاق به فتكون مصاحبة له، ومقتدية به.

عن المرء لاتسئل وسل عن قرينه            فكل قرين بالمقارن يقتدي

وتعالوا معي إلى ذاك الوصف الذي لم تشهد البلاغة وصفاً مثله، جزالة في العبارة، وحسن في السبك، وجمال في الأسلوب، ودقة في التصوير، وروعة في الإبداع، وقوة في الطرح، ورقي في الجمال؛ كل هذا ليثبت لنا أن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أجمل الخلق، وأحسن الخلق ظاهراً وباطنا، وهاكم وصف أم معبد لنبيكم – صلى الله عليه وسلم – الذي كان بعدما نصبت أم معبد وزوجها خيمتهما في قلب الصحراء؛ لاستضافة الضيوف، وكسب أعطياتهم؛ فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – مهاجراً من مكة إلى المدينة ومعه "أبو بكر"، و"عامر بن فهيرة" مولى أبى بكر، ودليلهم "عبد اللَّه بن أريقط"؛ ولما اشتد بهم العطش، وبلغ الجوع بهم منتهاه؛ جاءوا إلى "أم معبد"، ونزلوا بخيمتها، وطلبوا منها أن يشتروا لحماً وتمراً، فلم يجدوا عندها شيئاً، فنظر النبي – صلى الله عليه وسلم – في جانب الخيمة فوجد شاة، فسألها: ((يا أم معبد هل بها من لبن؟)) قالت: لا هي أجهد من ذلك – أي أنها أضعف من أن تُحلب -، فقال: ((أتأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: نعم إن رأيت بها حلباً، فمسح ضرعها بيده الشريفة، وسمَّى اللَّه، ودعا لأم معبد في شاتها؛ فدرّت واجترّت، فدعاها وطلب منها إناءً، ثم حلب فيه حتى امتلأ عن آخره، وقدَّمه إليها فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رَوُوا، وشرب آخرهم، ثم حلب ثانياً وتركه عندها، وارتحلوا عنها، فما لبثت إلا قليلاً حتى جاء زوجها أبو معبد "أكثم بن أبى الجون" يسوق أَعْنُزاً عجافاً هزالاً، تسير سيراً ضعيفاً لشدة ضعفها، فلمّا رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا يا أم معبد، والشاة عازب بعيدة عن المرعى، حيال غير حامل، ولا حَلُوبةَ في البيت؟ قالت: مرّ بنا رجل كريم مبارك، كان من حديثه كذا وكذا ! قال: صِفِيهِ لي يا أم معبد، فقالت: "إنه رجلٌ ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه3، حسن الخِلقة، لم تُزْرِ به صِعلة4، ولم تَعِبْه ثجلة5، وسيماً قسيماً، في عينيه دَعَج6، وفى أشفاره عطف7، وفى عنقه سَطَع8، وفى صوته صَحَل9، وفى لحيته كثافة، أحور أكحل، أزَجُّ أقرن10، إن صمتَ فعليه الوقار، وإن تكلم سَمَا وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، فَصْلٌ، لا نزر ولا هَدْر، وكأن منطقه خرزات نظم تَنحدر، رَبْعَة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه العين من قِصِر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظر11،  أحسنهم قدراً، له رُفَقَاء يحفُّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود12، لا عابس ولا مُفنّد13، فقال أبو معبد: هو واللَّه صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكر بمكة، ولو كنت وافقتُه لالتمستُ صحبته، ولأفعلن إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً، فأعدت أم معبد وزوجها العدة؛ كي يلحقا برسول الله – صلى الله عليه وسلم-  في  المدينة، وهناك أسلما، ودخلا في حمى الإسلام.

فأصبح الناس بمكة يسمعون صوتاً عالياً، ولا يدرون من صاحبه14، وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه             رفيقي قالا خيمتي أم معــبد

هما نزلاه بالهـدى واهتـدت به            فقد فاز من أمسى رفيق محمـد

فيا لقصي ما زوى الله عنــكم            به من فعال لاتجـارى وسؤدد

ليهن بني كعب مكان فتاتهــم             ومقعــدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائهـا             فإنـكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتـحلــبت           عليه صريحـاً ضرة الشاة مزبد

فغادرها رهناً لديـها لحالــب            يرددها في مصـدر ثم مـورد

فلما أن سمع حسان بن ثابت بذلك شبب يجيب الهاتف وهو يقول:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيـهم           وقدس من يسري إليهم ويغتدي

ترحل عن قوم فضلت عقولهـم            وحل على قوم بنور مجـــدد

هداهم به بعد الضلالة ربهــم            وأرشدهم من يتبع الحـق يرشد

وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا            عمايتهم هاد به كل مهتـــد

وقد نزلت منه على أهل يثـرب            ركاب هدى حلت عليهم بأسعد

نبي يرى ما لا يرى الناس حولـه           ويتلو كتاب الله في كل مسجـد

وإن قال في يوم مقالة غائــب            فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

ليهن أبا بـكر سعادة جــده             بصحبـته من يسعـد الله يسعـد

ليهن بني كعب مكان فتـاتهـم             ومقعـدها للمـؤمنـين بمرصـد

وهكذا حلت البركة والخير والنعمة والعطاء على أم معبد وزوجها بحلول نبينا – صلى الله عليه وسلم – بعد أن كانوا في شدة وضيق، وجدب وقحط أوشكوا منه على الهلاك، وفي هذه القصة من المعجزات الشيء الكثير أبرزها حلب الشاة المجهدة، ودر اللبن منها، مما جعل أبا معبد عند مشاهدته لهذه المعجزة يعلن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويتبع الرسول إلى المدينة مع زوجته أم معبد.

وعاشت أم معبد – رضي الله عنها – بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى خلافة عثمان بن عفان – رضي اللَّه عنه -، وكان الصحابة يقدِّرونها ويعرفون لها فضلها فعن هشام بن حرام عن أبيه: أن أمّ معبد كانت تُجْرَى عليها كِسْوَة، وشيء من غلة اليمن، وقَطَران لإبلها، فمرّ عثمان، فقالت: أين كسوتي؟ وأين غلة اليمن التي كانت تأتيني؟ قال: هي لك يا أم معبد عندنا، واتبعتْه حتى أعطاها إياها.

رضي الله – تعالى – عن صحابة رسول الله أجمعين، ووفقنا لكل خير، ودفع عنا كل ضير، والحمد لله رب العالمين.


 


1 أصل القصة رواها الحاكم في المستدرك برقم (4274) وصححها الذهبي في التلخيص، ورواها الطبراني في الجامع الكبير برقم ( 3605).

2 سورة آل عمران (31).

3 أي أبيض واضح ما بين الحاجبين كأنه يضيء.

4 أي: لم يعيِّبه صغر في رأس، ولا خفة ولا نحول في بدن.

5 الثجلة: ضخامة البطن.

6 شدة سواد العين.

7 طول أهداب العين.

8 السطع: الطول.

9 بحَّة.

10 الزجج: هو تقوس في الحواجب مع طول وامتداد، والأقرن: المتصل الحواجب.

11 (تقصد أبا بكر، وابن أريقط؛ لأن عامر بن فهيرة كان بعيداً عنهم يعفى آثارهم).

12 أي: يحفه الناس ويخدمونه.

13 المُفنّد: الضعيف الرأي.

14 وفي رواية أسماء أقبل رجلاً من أسفل الوادي راجع (فقه السيرة ج1ص 168) للألباني.