الصوفية والتصوف

الصوفية والتصوف

الصوفية والتصوف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

عباد الله: إن الاهتمام بالعقيدة الإسلامية الصافية أهم ما يشغل بال المسلم الذي يرجو الله واليوم الآخر؛ لأن صحة العقيدة مطلب شرعي عظيم، فقد فشا في الأمة عبر القرون السابقة عقائد متعددة وفرق كثيرة منحرفة أدت إلى الضعف الذي وصلت إليه الأمة في جميع مجالات الحياة.. ومن تلك الفرق التي انتشرت في العالم الإسلامي وأفسدت عقائد الناس فرقة الصوفية..

وسنقف في يومنا هذا مع شيء مما يتعلق بها..

نشأ التصوف أول ما نشأ بالبصرة، وأول من بنى ديرة التصوف بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد من أصحاب الحسن البصري رحمه الله.

وقد تميز عباد البصرة آنذاك بالمبالغة في التعبد، وظهرت فيهم مظاهر جديدة لم تكن مألوفة من قبل، فكان منهم من يسقط مغشيا عليه عند سماع القرآن، ومنهم من يخر ميتا، فافترق الناس إزاء هذه الظاهرة بين منكر ومادح، وكان من المنكرين عليهم جمع من الصحابة كأسماء بنت أبي بكر وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم، إذ لم تكن تلك المظاهر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وهم الأعظم خوفاً والأشد وجلاً من الله سبحانه.

وقد تنازع العلماء في أصل هذه النسبة وإلى أي شيء تضاف فقيل: هي نسبة إلى أهل الصُفَّة ، وقيل: نسبة إلى الصفوة، وقيل: نسبة إلى الصف المقـدّم، وقيل: بل نسبة إلى صوفة بن بشر رجل عرف بالزهد في الجاهلية، قال الإمام ابن تيمية: "وكل هذا غلط، وقيل -وهو المعروف- أنه نسبة إلى لبس الصوف" ونفى القشيري صحة هذه النسبة أيضاً، وقال: إن القوم لم يعرفوا بلبس الصوف، وأيا كان أصل النسبة فإن اللفظ صار علما على طائفة بعينها، فاستُغني بشهرته عن أصل نسبته.

وربما بدأت الصوفية كمجموعة اتخذت الزهد شعارها، وتصفية القلوب دثارها، مع صحة الاعتقاد وسلامة العمل في الجملة، إلا أنه قد دخل في مسمى الصوفية فرق وطوائف متعددة، لم يكن الجامع بينها إلا التحلي بالزهد والاهتمام بأحوال القلوب سواء أكان على وجه الصدق أم كان على وجه الادعاء والتظاهر أمام الخلق، أما العقائد فقد تفرقت بهم السبل فيها، ولا سيما بين جيل الصوفية الأوائل من أمثال إبراهيم بن أدهم، والجنيد، وبشر الحافي، وبين المتأخرين من أمثال الحلاج وابن عربي والفارابي وابن سبعين وغيرهم.

إخواني المسلمين: إن من عقائد الصوفية التي اشتهرت عنهم، ودونت في كثير من كتبهم:

1-  القول بالحلول: وهي بدعة كفرية أخذها من أخذها عن كفار الهند، ومعناها عندهم أن الله حالٌّ في مخلوقاته، فلا انفصال بين الخالق والمخلوق، وليس في الوجود إلا الله، وهذا ما يسمى بوحدة الوجود، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

2- الغلو في الصالحين: وفي مقدمتهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، حيث يعتقد الغالون من الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم هو قبة الكون، وأن الخلق ما خلق إلا لأجله ومن نوره، ويقل منسوب الغلو عند بعضهم فيرى أن النبي صلى الله عليه وسلم بشراً رسولا، إلا أنهم يستغيثون به طالبين المدد والعون.. ومعلوم في عقيدة الإسلام أنه لا يستغاث إلا بالله جل جلاله كاشف الضر ورافعه.

ومن أوجه الغلو عند الصوفية كذلك الغلو في صالحيهم، حتى وجد في بعضهم من يعبد شيخه فيسجد له ويدعوه، وربما قال بعضهم: كل رزق لا يرزقنيه شيخي فلا أريده ونحو هذه الأقوال، وربما غلا بعضهم في نفسه واغتر بها، حتى روي عن بعضهم قوله: " خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله!!"، ويلقبون قادتهم ومعلميهم بالأقطاب والأوتاد، ويجعلون لهم تصريف الكون أرضه وسماءه، في منطق يجمع بين الجهل والسخف وقلة العقل والدين.

3- تقسيم الدين إلى شريعة تلزم العامة، وحقيقة تلزم الخاصة: فالشريعة هي ما يسمونه العلم الظاهر، والحقيقة هي ما يدعونه العلم الباطن، فالعلم الظاهر والذي يمثل الشريعة معلوم المصدر وهو الكتاب والسنة، أما علم الحقيقة، علم الباطن فهذا يدعي الصوفية أنهم يأخذونه عن الحي الذي لا يموت!! فيقول أحدهم: حدثني قلبي عن ربي!! وذهب بعضهم إلى القول بأنه يأخذ عن ملك الإلهام، كما تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم علومه عن ملك الوحي، وزعم بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من يخبرهم بما يتوجب عليهم من عبادة وذكر، وأنهم يلتقون بالأنبياء ويسألونهم عن قصصهم، وقال آخر: إذا طالبوني بعلم الورق، برزت عليهم بعلم الخرق!!

وقال أبو حامد الغزالي في بيان هذا المسلك: "اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية، ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات بمحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة، وذلك بأن يقطع الإنسان همه عن الأهل والمال والولد والعلم، ويخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض والرواتب، ولا يقرن همه بقراءة قرآن ولا بالتأمل في نفسه، ولا يكتب حديثا ولا غيره، ولا يزال يقول: "الله الله الله"!!! إلى أن ينتهي إلى حال يترك تحريك اللسان ثم يمحي عن القلب صورة اللفظ"!.

4- بناؤهم العبادة على المحبة فقط، فلا يعبدون الله خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، وقد قال بعض السلف: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي من الخوارج- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد".

هذه بعض أفكار وعقائد الصوفية ولا سيما المتأخرين منهم.

أيها المسلمون: إن الطرق الصوفية والفرق الباطنية قد تعددت أشكالها واختلفت ألوانها، وتنوعت وجهاتها، فمن تلك الطرق:

التيجانية: وتنسب لأحمد بن محمد بن مختار التيجاني، ولد سنة 1150هـ بقرية بني تيجين من قرى البربر، ومن مزاعمه أنه خاتم الأولياء فلا ولي بعده، وأنه الغوث الأكبر، وأن أرواح الأولياء منذ آدم إلى وقت ظهوره لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بواسطته، وأنه وأتباعه أول من يدخلون الجنة، وأن الله أعطاه ذكرا يسمى "صلاة الفاتح" وأن هذا الذكر يفضل كل ذكر على وجه الأرض ستين ألف مرة!! وأن أتباعه يدخلون الجنة بلا عذاب ولا حساب مهما عملوا من المعاصي!!.

الشاذلية: وتنسب إلى أبي الحسن الهذلي الشاذلي نسبة إلى شاذلة ببلاد المغرب.. وتنتشر "الشاذلية" في كل من مصر وبلاد الشام، ويشتهرون بالذكر المفرد "الله، الله، الله" أو المضمر " هو هو " ولهم ورد يسمى الحزب الشاذلي.

الختمية: طريقة صوفية أسسها محمد عثمان المرغني المحجوب ويلقب بالختم، أي خاتم الأولياء ولد سنة 1208هـ /1838م، وأول ما ظهرت الختمية بمكة والطائف، وانتشرت منهما إلى مصر والسودان واريتريا، وتلتقي عقائدها مع كثير من عقائد فرق المتصوفة الآخرين كالغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، والغلو في شيوخهم.1

هذه بعض الفرق الصوفية التي لها من العقائد والأفكار ما يخالف صفاء عقيدة الإسلام، وخلاصة نور التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الأهواء والفتن، ونسألك بصيرة في ديننا تقودنا إلى رضوانك وجنتك دار السلام، اللهم اغفر لنا ذنوبنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجنبنا الشرك وعبادة الأصنام، وجعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ووفقنا للتمسك بكتابه وسنة نبيه، والبعد عن البدع والمحدثات في الدين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد:

أيها المسلمون:

لقد جاءت الصوفية ببدع كثيرة تفسد صفاء العقيدة وصفاء العبادة.

من ذلك: عبادة الأضرحة والأولياء، وتضخيم الشيخ في حس المريد حتى يصبح وسيطاً بينه وبين الله.. وتوجيه ألوان من العبادة إلى أولئك "المشايخ" أحياء وأمواتاً لا يجوز توجيهها لغير الله.

إنها ردة جاهلية.

صحيح أن الناس لا يعبدون صنماً منحوتاً كما كان يفعل المشركون يوم ذاك.. ولكن كيف نسمي التمسح بالأضرحة التماساً للبركة! والدعاء عنده رجاء الاستجابة، وطلب المعونة من صاحب الضريح، والاستغاثة به من الكرب، والإيمان بأنه ذو حظوة عند الله، يستطيع بها أن يغير مجرى الأقدار؟! أو الإيمان بأن الله قد عهد إلى الأقطاب والأبدال أن يتصرفوا في ملك الله، فإذا استعطفهم مريدهم وتضرعوا إليهم صرّفوا الأمور لصالحهم، وحموهم من الأخطار!!

ألم يكن مشركو الجزيرة يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}؟!  (3) سورة الزمر. أي: لا نعبدهم لذواتهم ولكن لما لهم من حظوة عند الله؟! أما الشيخ والمريد فبدعة أخرى من بدع الصوفية الخطيرة.

ولا يعنينا هنا أن نذكر كيف بدأت البدعة، ولا أن العامة قد ارتموا في أحضان الصوفية لقلة العلماء المربين الذين يعلمون الناس دينهم على المنهج القرآني الواضح السهل البليغ المؤثر، وعلى منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقرب الحقائق للناس حتى يتشربوها في يسر، وترسخ في نفوسهم فلا يمحى أثرها.. إنما وجد العامة بدلاً من ذلك من يتكلم عن العقيدة كأنها معاظلات ذهنية تجريدية -وخاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية والأسماء والصفات- تجهد الذهن ولا تحرك القلب، ووجدوا المتخصصين في الفقه يتحدثون فيه لا على أنه "دين" نزل لينظم حياة البشر على الأرض، ويربط قلوبهم بالله وهم يأتمرون بأمره وينفذون تعاليمه، ولكن كأنه قضايا جافة مبتوتة الصلة بالوجدان الحي.. لذلك هرب العامة من معاظلات علم الكلام في العقيدة، ومن جفاف الدراسات الفقيهة، إلى الملجأ الذي رأوه يشبع وجدانهم الروحي الظامئ فوجدوا راحتهم النفسية التي افتقدوها هنا وهناك..

ذلك يفسر ولا يبرر.. فلا شيء يبرر الانحراف عن طريق الله القويم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (153) سورة الأنعام.

جاء الإسلام ليلغي كل واسطة بين البشر وربهم، وليعقد الصلة مباشرةً بين العبد والرب {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (60) سورة غافر، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (186) سورة البقرة.

وجاءت الصوفية لتجعل بين العبد وربه وسطاء وشفعاء، سواء كانوا من الأموات أو الأحياء.

وجاء الإسلام ليخرج من هذه الأمة "علماء" و " فقهاء" يعلمون الناس أمر دينهم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (28) سورة فاطر. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة.

وجعل أولئك العلماء والفقهاء أئمة ومعلمين ومربين وقدوة للناس، ولم يجعلهم "كهنة" يختصون "بالطقوس".. ذلك أنه لم يكن عقيدة وشعائر فحسب.. إنما كان عقيدة وشريعة ومنهجاً كاملاً للحياة ، لذلك يحتاج الناس في ظله إلى علماء وفقهاء يعلمونهم أصول دينهم ومحتوياته ومتطلباته.. أما حين يكون عقيدة فحسب، وطقوساً تتعلق بالعقيدة، فهنا يظهر "الكهنة" ليكونوا وسطاء بين الناس وربهم ويظل الوسيط يتضخم في حسهم حتى يخرج عن طبيعته البشرية الخالصة، ويصبح حسهم مزدوج الطبيعة فيه ناسوت ولاهوت!

جاء الإسلام ليجعل الدين خالصاً لله، وجاءت الصوفية لتحوّل الشيخ في حس المريد إلى وسيط بين الناس وربهم، بحجة أنه مبارك عند الله، ترجى بركته؛ ليقرب الناس إلى الله زلفى، وليجعل الله يحيطهم برحمته!! فكأنما له شركة في الأمر مع الله، مع أن الله قال لرسوله الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (128) سورة آل عمران.

وجاء الإسلام ليقرر بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشرية خالصة، لا يخالطها شيء من "اللاهوت"، فغلت الصوفية في حبه وتعظيمه، حتى جعلت كأنما خلق الله الخلق ليشاهدوا الأنوار المحمدية!! وليس أن الله بعث رسوله –صلى الله عليه وسلم- لهداية البشرية. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء.

ثم جعلوا من هذا التعظيم ذاته وسيلة لتضخيم الشيخ في حس المريد، بدعوى أن الشيخ يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامه، ويلتقي منه مباشرة كلاماً يقوله للناس!!.2

فعلى الأمة المسلمة أن تحذر من مخاطر الأفكار والعقائد الصوفية التي تسعى إلى هدم الإسلام، وخلط الأمور على البسطاء من الناس، ولا بد أن نعلم أن التصوف بدأ من جديد يحفر عن أصوله، ويجمع أوراقه، تدعمه في ذلك المنظمات المشبوهة حتى الغربية منها، بل إن الدول الغربية الآن تدعم التوجه الصوفي لأنه يمهد لها الطريق للسيطرة أكثر على المسلمين، فالتصوف منهج بليد قائم على الشعوذة والخرافة، ولا يؤمن بحق الكفاح والجهاد الميداني تجاه الأعداء إنما يدعو إلى الهرطقة والتعلق بالأوهام، وزعم الاقتصار على جهاد النفس، ولو كان العدو بعتبة باب أحدهم!

والتاريخ يثبت ذلك، والأحداث المعاصرة تشهد لذلك، فما وجدت الصوفية في بلد محتل إلا كانت –إن لم تكن مساندة- مجمدة لأتباعها عن القيام بما يجب من نصرة المسلمين، ومقارعة أعداء الدين.. كل هذا إضافة إلى العقائد الفاسدة التي يحملونها بين جوانحهم وقد سبق ذكر شيء منها..

اللهم أهدنا إلى الحق، وجنبنا سبيل المجرمين، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 نقلاً عن "منتديات الموصل للجميع" بتصرف.

2 عن كتاب: (لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة) ص 57 – 60، للدكتور/ محمد قطب رحمه الله.