لا تأتوها وأنتم تسعون

لا تأتوها وأنتم تسعون

لا تأتوها وأنتم تسعون

 

الحمد لله الذي أكمل الإسلام لهذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرع لها من الشرائع ما فيه نجاة لها من الانحراف والانتكاس، وصلى الله على عبده ورسوله المصطفى ونبيه المجتبى وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا).1

شرح الحديث:

(تَسعَون) المراد بالسعي في هذا الحديث الجري والاشتداد، والسرعة في المشي.

(السكينة) التأني في الحركات، واجتناب العبث.

قال النووي عن هذا الحديث: "فيه الندب الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار، والنهي عن إتيانها سعياً سواء فيه صلاة الجمعة وغيرها، سواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا، والمراد بقول الله – تعالى-: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ..} (9) سورة الجمعة، الذهاب، يقال: سعيت في كذا أو إلى كذا إذا ذهبت إليه وعملت فيه، ومنه قوله – تعالى-: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (39) سورة النجم، قال العلماء: والحكمة في إتيانها بسكينة والنهي عن السعي أن الذاهب إلى صلاة عامد في تحصيلها، ومتوصل إليها، فينبغي أن يكون متأدباً بآدابها، وعلى أكمل الأحوال، وهذا معنى الرواية الثانية: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (إذا أقيمت الصلاة..) إنما ذكر الإقامة للتنبيه بها على ما سواها؛ لأنه إذا نهى عن إتيانها سعياً في حال الإقامة مع خوفه فوت بعضها فقيل الإقامة أولى، وأكد ذلك ببيان العلة فقال – صلى الله عليه وسلم -: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)، وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة، وأكد ذلك تأكيداً آخر قال: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) فحصل فيه تنبيه وتأكيد لئلا يتوهم متوهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة، فصرح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات، وبين ما يفعل فيما فات، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (وما فاتكم) دليل على جواز قول: فاتتنا الصلاة، وأنه لا كراهة فيه، وبهذا قال جمهور العلماء وكرهه ابن سيرين وقال: إنما يقال: لم ندركها.

وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (وما فاتكم فأتموا) هكذا ذكره مسلم في أكثر رواياته وفي رواية (واقض ما سبقك).

واختلف العلماء في المسألة فقال الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف: ما أدركه المسبوق مع الإمام أول صلاته، وما يأتي به بعد سلامه آخرها، وعكسه أبو حنيفة – رضي الله عنه – وطائفة، وعن مالك وأصحابه روايتان كالمذهبين.

وحجة هؤلاء (واقض ما سبقك)، وحجة الجمهور: أن أكثر الروايات (وما فاتكم فأتموا)، وأجابوا عن رواية (واقض ما سبقك) أن المراد بالقضاء الفعل لا القضاء المصطلح عليه عند الفقهاء، وقد كثر استعمال القضاء بمعنى الفعل فمنه قوله – تعالى-: (فقضاهن سبع سماوات)، وقوله – تعالى-: (فإذا قضيتم مناسككم)، وقوله – تعالى-: (فإذا قضيت الصلاة) ويقال: قضيت حق فلان، ومعنى الجميع الفعل.

قوله – صلى الله عليه وسلم -: (وعليه السكينة والوقار) قيل هما بمعنى وجمع بينهما تأكيداً، والظاهر أن بينهما فرقاً، وأن السكينة التأني في الحركات، واجتناب العبث ونحو ذلك، والوقار في الهيئة، وغض البصر، وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات ونحو ذلك والله أعلم".2

وقال ابن رجب:

"وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة، وترك الإسراع والهرولة في المشي، ولما في ذلك من كثرة الخطا إلى المساجد.

وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الأولى والركعة، فإن خشي فواتها، ورجا بالإسراع إدراكها؛ فاختلفوا: هل يسرع حينئذ أم لا؟ وفيه قولان:

أحدهما: أنه يسعى لإدراكهما.

وروي عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه سعى لإدراك التكبيرة، ونحوه عن ابن عمر، والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد، وسعيد بن جبير.

وعن أبي مجلز: الإسراع إذا خاف من فوت الركعة.

وقال إسحاق: لا بأس بالإسراع لإدراك التكبيرة، ورخص فيه مالك.

وقال أحمد – في رواية مهنأ -: ولا بأس – إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى – أن يسرع شيئاً، ما لم يكن عجلة تقبح؛ جاء عن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم كانوا يعجلون شيئاً إذا تخوفوا فوت التكبيرة الأولى، وطمعوا في إدراكها.

وبوب النسائي في (سننه) على (الإسراع إلى الصلاة من غير سعي)، وخرج فيه حديث أبي رافع قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل يتحدث عندهم حتى ينحدر المغرب، قال أبو رافع: فبينما النبي – صلى الله عليه وسلم – يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع.. وذكر الحديث.

وهذا إنما يدل على إسراع الإمام إذا خاف الإبطاء على الجماعة وقد قرب الوقت.

والقول الثاني: أنه لا يسرع بكل حالٍ.

وروي عن أبي ذر، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعطاء، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء، وهو قول الثوري.

ونقله ابن منصور وغيره عن أحمد، وقال: العمل على حديث أبي هريرة.

وحديث أبي هريرة دليل ظاهر على أنه لا يسرع لخوف فوت التكبيرة الأولى ولا الركعة؛ فإنه قال: (فإذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، ولا تسرعوا)، فدل على أنه ينهى عن الإسراع مع خوف فوات التكبيرة أو الركعة، وفي (مسند الإمام أحمد) من حديث أبي بكرة أنه جاء والنبي – صلى الله عليه وسلم – راكع فسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – صوت نعلي أبي بكرة وهو يحفز يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف قال: (من الساعي؟) قال أبو بكرة: أنا، قال: (زادك الله حرصاً، ولا تعد)، وفي إسناده من يجهل حاله.3

وخرجه البخاري في (كتاب القراءة خلف الإمام) بإسناد آخر فيه ضعف – أيضاً – عن أبي بكرة بمعناه، وفي حديث قال: إن أبا بكرة قال: يا رسول الله خشيت أن تفوتني ركعة معك، فأسرعت المشي، فقال له: (زادك الله حرصاً، و لا تعد، صل ما أدركت، واقض ما سبقت).

ولو سمع الإقامة وهو مشتغل ببعض أسباب الصلاة كالوضوء و الغسل أو غيرهما فقال عطاء: لا يعجل عن ذلك، يعنى: أنه يتمه من غير استعجال.

وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (عليكم السكينة والوقار) وهو بالرفع على أن الجملة مبتدأ وخبر، ويروى بالنصب على الإغراء، ذكره أبو موسى المديني.

وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) هذه الرواية المشهورة عن الزهري التي رواها عنه عامة أصحابه الحفاظ.

ورواه ابن عيينة عن الزهري، وقال في روايته: (وما فاتكم فاقضوا)، خرج حديثه الإمام أحمد والنسائي.

وذكر أبو داود أن ابن عيينة تفرد بهذه اللفظة يعني: عن الزهري، وذكر البيهقي بإسناده عن مسلم أنه قال: أخطأ ابن عيينة في هذه اللفظة، قلت: قد توبع عليها.

وخرجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقال في حديثه: (فاقضوا)، قال معمر: ولم يذكر سجوداً.

وكذا رواها بحر السقاء عن الزهري وقال في حديثه: (وليقض ما سبقه) وبحر فيه ضعف.

ورواها – أيضاً – بنحو رواية بحر: سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، خرجه البخاري في (كتاب القراء خلف الإمام).

ورويت لفظة (القضاء) من غير رواية الزهري:

وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (ائتوا الصلاة وعليكم السكينة، فصلوا ما أدركتم، واقضوا ما سبقكم).4

ورويت عن أبي هريرة من وجوه أُخر:

فخرج مسلم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ولكن ليمش؛ وعليه بالسكينة والوقار، صل ما أدركت، واقض ما سبقك) قال أبو داود: وكذا قال أبو رافع عن أبي هريرة.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حميد عن أنس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا جاء أحدكم فليمش نحواً مما كان يمشي، فليصل ما أدركه، وليقض ما سبقه).5

وخرج البزار.. عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها، إلا أنه يقضي ما فاته).6

وهذا الحديث آخر غير الذي قبله.

وبالجملة فرواية من روى (فأتموا) أكثر، وقد استدل الإمام أحمد برواية من روى (فاقضوا) ورجحها.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله – يعني أحمد -: أرأيت قول من قال: يجعل من أدرك مع الإمام أول صلاته، وقد قال: يجعله آخر صلاته، أي شيء الفرق بينهما؟ قال: من أجل القراءة فيما يقضي!! قلت له: فحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – على أي القولين يدل عندك؟ قال: على أنه يقضي ما فاته؛ قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (صلوا ما أدركتم، واقضوا ما سبقكم).

وقال في رواية ابنه صالح: يروى عن أنس وأبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (صلَّ ما أدركت واقض ما سبقك)7، قال: ويروي غيره أنه قال: يقرأ فيما أدرك، وقال غيره: يقرأ فيما يقضي، قال ابن مسعود: ما أدركت من الصلاة فهو آخر صلاتك. انتهى.

وروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة أن علياً قال: ما أدركت من الإمام فهو أول صلاتك، واقض فيما سبقك به من القراءة، وأن ابن مسعود قال: اقرأ فيما فاتك.

وعن مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام التي يعلن فيها بالقراءة، فإذا سلم الإمام قام عبد الله فقرأ لنفسه.

وروى الإمام أحمد: عن نافع أن ابن عمر كان إذا سبق بالأوليتين قرأ في الآخرتين بفاتحة الكتاب وسورة.

قلت: أما القراءة فيما يقضي فمتفق عليها؛ لأن حكم متابعة الإمام قد انقطعت عنه بسلام إمامه قبل فراغ صلاته، فهو فيما بقي من الصلاة منفرد يقرأ كما يقرأ المنفرد بصلاته، لا يقول أحد من العلماء: أنه لا يقرأ فيها لاستمرار حكم ائتمامه بالإمام.

ولكن من يقول من السلف: أن المصلي يقرأ في ركعتين، ويسبح في ركعتين كما يقول الكوفيون وغيرهم، يقول: إذا أدرك الإمام في ركعتين من الرباعية أنه لا يقرأ معهم؛ لأنهم لا يرون قراءة المأموم وراء إمامه بحال، ويقولون: إذا قام يقضي ما فاته من الركعتين فإنه يقرأ ولا يجزئه أن يسبح، فإنه قد صار منفرداً في بقية صلاته، فلا بد له من القراءة سواء فاته ركعة أو ركعتان، فإن فاته ثلاث ركعات قرأ في ركعتين، وله أن يسبح في الثالثة، وهذا كله قول سفيان الثوري.

وحكى سفيان وأصحابه وابن عمر أنه إذا أدرك ركعتين مع الإمام لم يقرأ فيما أدركه معه، وقرأ في الركعتين إذا قضاهما.

وعن علي أن ما أدركه فهو أول صلاته، فيقرأ فيه ما سبقه به الإمام من القراءة.

ظاهر هذا أن علياً لم ير القراءة فيما يقضيه، وأنهم أرادوا أنه لا يقرأ فيه ما زاد على الفاتحة.

وممن قال يقرأ فيما يقضي: عبيدة السلماني، وابن سيرين، وأبو قلابة، والنخعي.

وروى عبد الرزاق عن الثوري عن جابر عن الشعبي أن جندباً ومسروقاً أدركا ركعة من المغرب فقرأ جندب ولم يقرأ مسروق خلف الإمام، فلما سلم الإمام قاما يقضيان، فجلس مسروق في الثانية والثالثة، وقام جندب إلى الثالثة ولم يجلس، فلما انصرفا أتيا ابن مسعود فقال: كل قد أصاب، ونفعل كما فعل مسروق.

وأكثر العلماء على أنه يقرأ في ركعات الصلاة كلها، يقرأ في الركعتين الأوليتين بالحمد وسورة وفي الآخرتين بالحمد وحدها.

وعلى هذا؛ إذا أدرك المسبوق من الرباعية أو المغرب ركعتين، فيقرأ فيما يقضي من الركعتين وبالحمد وحدها، أو بالحمد وسورةٍ؟ على قولين: أشهرهما أنه يقضي بالحمد وسورةٍ.

وهذا هو المنصوص عن مالك، والشافعي، وأحمد.

ونص الشافعي على أن ما أدركه مع الإمام فهو أول صلاته.

وعن مالك في ذلك روايتان منصوصتان أحدهما: هو أول صلاته، والثانية: هو آخرها.

وكذلك عن أحمد، ولكن أكثر الروايات عنه أنه آخر صلاته.

وأما مذهب أبي حنيفة وأصحابه فهو أن ما أدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، وهو قول الحسن بن حي وسفيان الثوري.

وعلى قول هؤلاء لا إشكال في أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة".8

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 رواه البخاري ومسلم.

2 شرح النووي على مسلم (5/99-100).

3 الحديث رواه البخاري في صحيحه، والغريب أن يقول ابن رجب هذا القول، والله أعلم بمقصوده.

4 رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.

5 قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

6 ورواه النسائي وقال الألباني: صحيح لغيره.

7 رواه مسلم.

8 فتح الباري لابن رجب (4/256-257).