اتباع الهوى

اتبـاع الهـوى

اتبـاع الهـوى

الحمد لله الذي أبان معالم الحق وأوضحه وأنار مناهج الدين القويم وبينه،أحمده جل جلاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بيّن السبيل ودعا إلى الصراط المستقيم حتى ترك الأمة على بيضاء نقية، فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والسنة ظاهرة والبدعة بينة، فـ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

أيها الناس: إن الله -تبارك وتعالى- قد حذرنا الله من أمراض القلوب وأدوائها، ومن هذه الأدواء: اتباع الهوى، هذا الداء الذي: "ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه" كما قال ابن عباس-رضي الله عنهما-.

فقد ذم الله اتباع الهوى، وحذر منه في آيات كثيرة، ومن هذه الآيات قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى} سورة النساء(135) "أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية، وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل إلزموا العدل على أي حال كان؛ كما قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}1 سورة المائدة(8)، والله تعالى يقول لنبيه داوود -عليه وعلى نبينا وسائر النبيين الصلاة والسلام-: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} سورة ص(26) "فاتباع الهوى يحمل على شهادة بغير الحق وعلى الجور في الحكم إلى غير ذلك، وقال الشعبي: "أخذ الله -عز وجل- على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلاً"2..

أيها الناس: لقد شبه الله من اتبع هواه وركن إلى الدنيا بأخس مخلوقاته؛ فقال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} سورة الأعراف(176) "فشبه سبحانه من أتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرها وحرصا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض، يتشمشم ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات، وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا، والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري، والعذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره؛ لحرصه وبخله وشرهه، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة، وثياب دنية، وحال زرية، نبحه وحمل عليه؛ كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته، وإذا رأى ذا هيئة حسنة، وثياب جميلة ورياسة، وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه"3..

وقد حث الله -تبارك وتعالى- نبيه على الصبر ومجالسة المؤمنين الضعفاء الذين يدعون الله صباح مساء مخلصين العمل لله، وحذر نبيه كذلك من مجالسة الغافلين عن الله الذين اتبعوا هوائهم، فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} سورة الكهف(28).

وقال تعالى محذراً من اتباع الهوى: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} سورة طـه(16) "المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين، أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه، واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر"4..

وقد يكون الهوى إلهاً يعبد من دون الله إذا تمرد على الشريعة، كما قال رب العزة والجلال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} سورة الجاثية(23) قال ابن عباس: "ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه"، وقال عكرمة: "أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئا وهويه اتخذه إلها"5. وقال قتادة: "هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى"6.

إن اتباع الهوى -معاشر المسلمين- مهلكة من المهلكات؛ فقد جاء عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات، فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه…)7.

اتباع الهوى مهلك لصاحبه؛ لأن جميع المعاصي والبدع إنما تنشأ من اتباع الهوى؛ كما يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} سورة القصص(50)، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فيجب على المؤمن محبة الله، ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً"8.

وبما أن اتباع الهوى منشأ لجميع المعاصي والبدع، فقد خشيه النبي-صلى الله عليه وسلم- على أمته؛ فعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى)9..

قال علي -رضي الله عنه-: "إنَّ أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق"10، وقال الشافعي: "لئن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء"11

أيها الناس: إن اتباع الهوى فخ يرصده الشيطان لبني آدم؛  كما قال النعمان بن بشير: "إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبرياء على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله"12.

واتباع الهوى يجلب الشر والفساد؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء، وبهما كذبت الرسل، وعصي الرب، ودخلت النار، وحلت العقوبات".. ولهذا كان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنه هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه"13.

أيها السلمون: إن اتباع الهوى يعمى قلب الإنسان ويصمه و: "يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبتة، والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل، فأنى له الانتفاع بالتذكر والتفكر أو بالعظة"14. "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه"15..

ولذلك فقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء)16..

اللهم أجرنا من مضلات الأهواء والفتن، وبصرنا بعيوب أنفسنا واسترها علينا يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير داع إلى رضوانه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

أيها الناس: إن اتباع الهوى "يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه، قال الفضيل بن عياض: "من استحوذ عليه الهوى، واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق".

وكان بعض السلف يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها، ثم قال:

أهوى هوى الدين واللذات تعجبني *** فكيف لي بهوى اللذات والدين

فقالت: "دع أحدهما تنل الآخر".

إن اتباع الهوى -أيها الموفقون- "يصرع العبد عن النهوض يوم القيامة عن السعي مع الناجين كما صرع قلبه في الدنيا عن مرافقتهم، قال محمد بن أبي الورد: "إن لله -عز وجل- يوما لا ينجو من شره منقاد لهواه، وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته، وإن العقول لما جرت في ميادين الطلب كان أوفرها حظا من يطالبها بقدر ما صحبه من الصبر، والعقل معدن، والفكر معول".

وفي الأخير: اعلموا-رحمكم الله- أن العلاج لهذا الداء يكون بمخالفة الهوى، فإن مخالفة الهوى "مطردة للداء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن، فأمراض القلب كلها من متابعة الهوى، ولو فتشت على أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه". كما أن مخالفة الهوى: "تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره، فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرة فأعطي عوضها درة، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء ما لا نسبة لما ظفر به من هواه البتة، فتأمل انبساط يد يوسف الصديق -عليه الصلاة والسلام- ولسانه وقدمه ونفسه بعد خروجه من السجن لما قبض نفسه عن الحرام!".

ومخالفة الهوى: "توجب شرف الدنيا وشرف الآخرة، وعز الظاهر وعز الباطن، ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة، وتذله في الظاهر وفي الباطن، وإذا جمع الله الناس في صعيد واحد نادى مناد: ليعلمنّ أهل الجمع من أهل الكرم اليوم ألا ليقم المتقون، فيقومون إلى محل الكرامة، وأتباع الهوى ناكسو رؤوسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه، وأولئك في ظل العرش.

أيها المسلم: إنك إذا خالفت هواك فإنك -بإذن الله- من السبعة الذين يظلهم الله -عز وجل- في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات، والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك، والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله -عز وجل- وخالف هواه، والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه. فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى".

فلا نجاة من اتباع الهوى إلا بمخالفته، وسؤال الله الإعانة على ذلك، قال بعض العارفين: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك؟! داؤك هواك، ودواؤك ترك هواك ومخالفته"، وقال بشر الحافي -رحمه الله تعالى-: "البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه"، يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} سورة النازعات(40) (41) ولذلك فإن الواجب على الإنسان أن يخالف هواه؛ فإن: "مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده"، وفي الحديث الصحيح المرفوع: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)17 وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته".

كما "أن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه، قال معاوية: "المروءة ترك الشهوات، وعصيان الهوى، فاتباع الهوى يزمن المروءة، ومخالفته تنعشها"18.

فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء، وأن يجعل هوانا تبعا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ..


 


1 تفسير القرآن العظيم (1/752) لابن كثير.

2 الجامع لأحكام القرآن (5/390) للقرطبي.

3  إعلام الموقعين(1/165- 166).

4 تفسير القرآن العظيم (3/194) ابن كثير..

5 يراجع: الجامع لأحكام القرآن (16/144) للقرطبي.

6 جامع العلوم والحكم، صـ(210). الناشر: دار المعرفة –بيروت.

7 رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(453).

8 جامع العلوم والحكم(389- 390).

9 رواه أحمد والطبراني في معاجيمه الثلاثة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (52).

10 البداية والنهاية(7/309).

11  حلية الأولياء(9/111). الناشر: دار الكتاب العربي-بيروت.

12 الأدب المفرد(1 /194) وقال الألباني: "حسن موقوف".

13 إعلام الموقعين(1/136).

14 مدارج السالكين(1/449).

15 منهاج السنة النبوية(5/256). الناشر: مؤسسة قرطبة.

16 رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم(2840).

17 رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

18 للمزيد يراجع: روضة المحبين(471- 479). الناشر: دار الكتب العلمية –بيروت.