المرأة والهجرة

المرأة والهجرة

المرأة والهجرة

الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، أما بعد:

فإن هجرة المرسلين ليست كهجرة البشر؛ لأنها هجرة هدفها التمكين لدين الله – تعالى – بإرساء قواعده في الأرض؛ لإعلاء شعائره إلى السماء، وهي هجرة لا يقدم عليها الرسول إلا بإذن ربه بعد أن هيأ الله – لهذا الأمر – رجالاً ونساءً، وما أكثر ما كان من الحديث عن الرجال في الهجرة حتى كان سبباً في خفاء أمر نسوة كن على طريق الهجرة من قبل الهجرة ومن بعدها؛ حيث أديّن أدواراً غايةً في الروعة والفداء والإيمان، نسوة صَدقن أيضاً ما عاهدن الله عليه، فلمعن في سماء الإسلام نجوماً باهرات لم يشهد التاريخ لهن مثيلاً، ومن تلك النسوة:

1-             الممهدات للهجرة:

نسيبة بنت كعب المازنية، وأم منيع أسماء بنت عمرو السلمية:  فبعد أن بُعث النبي – صلى الله عليه وسلم – في مكة، وأخذ يدعو قومه؛ أسلم منهم قليل، وبسطت قريش أيديها وألسنتها بالسوء، فأخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – يعرض نفسه على القبائل عله يجد من بينهم ناصراً، فلم يجد منها جميعاً أذناً صاغيةً، ولا قلباً واعياً، حتى لقي في موسم الحج نفراً من الخزرج فعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن؛ فصدقوه وآمنوا به، وقالوا: "إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله إليه فلا رجل أعز منك"، ثم انصرفوا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد بايعوه.

فلما عادوا إلى المدينة المنورة أذاعوا بها الإسلام، فأجاب داعيتهم خلق كثير، حتى إذا كان موسم الحج من قابل ذلك العام؛ خرج من المدينة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليبايعوه ويؤتوه عهدهم وذممهم من أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، فتوافدوا جميعاً إلى العقبة الثانية التي كانت النواة الأولى في لبنة الدولة الإسلامية، وما يهمنا من أمر هذه البيعة هو ما كان من أمر المرأتين وهما:

– نسيبة بنت كعب: بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو من بني النجار: وتكنى أم عمارة الأنصارية، وهي زوج زيد بن عاصم الصحابي الجليل، وكانت بطلة مجاهدة من أبطال الإسلام، ويحفظ لها التاريخ وقفتها يوم أحد، وهي تقاتل دون النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى قال: ((ما التفت يميناً وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني))[1]، وقد جرحت ثلاثة عشر جرحاً، والدم ينزف منها، فنادى المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ابنها عمارة قائلاً: ((أمك أمك أعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان))[2]، فلما سمعت أمه قالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: ((اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة))[3]، فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.

ويحدث التاريخ عن موقفها في حروب الردة، ومقاتلة مسيلمة الكذاب الذي قتل ابنها حبيب، وقطعه قطعاً، حين شاركت في الحرب كأحد الأبطال الميامين حتى قطعت يدها، فهذه المرأة وما اتصفت به من صفات تفوق الخيال كانت أولى المبايعات للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وامرأة بمثل هذه القوة والشجاعة لابد أن يكون لها في قومها رأي ومكانة، ولابد أن يكون لها تأثير على نساء قومها الذين عرفوا بـ"الأنصار".

أم منيع أسماء بنت عمرو: بن عدي بن نابي بن سواد بن سلمة، وتعرف بأم منيع الأنصارية، وهي أم معاذ بن جبل أحد الأئمة المعدودين من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، أسلمت حين تنفس صبح الإسلام بالمدينة المنورة قبل بيعة العقبة الثانية، وجاءت مع وفد البيعة، وكانت من أتم القوم عقلاً، وأحكمهم رأياً، ومن المشاركات في الجهاد في غزوة خيبر.

كلتا المرأتين كانتا مثالاً في قومهما للرأي والحكمة، والعقل والشجاعة، ولا بد أن يكون لهما تأثير على من سواهما من نساء يثرب، فقد قامتا مع الرجال بتعبئة الجو العام اليثربي، وتهيئته للإسلام حتى كانت الهجرة، فكان المجتمع اليثربي مستعداً لتكوين وتشييد وإقامة الدولة الإسلامية التي تكونت نواتها الأولى ببيعة العقبة.

2-             طليعة الهجرة:

ليلى بنت أبي حثمة العدوية: وهي ليلى بنت أبي حثمة بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن كعب بن لؤي القرشية العدوية، زوج عامر بن ربيعة العنبري، وقبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – كان زوجها مهيأ نفسياً لرؤية النبي – صلى الله عليه وسلم -، والإيمان بدينه؛ وذلك لأن زيد بن عمرو بن نفيل قال لعامر زوجها: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بنى عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة – يا عامر – ورأيته فأقرئه مني السلام، وبتهيئة زوجها كانت ليلى مهيأة لقبول الدين الجديد، لأن زوجها كان يردد كثيراً قول زيد بن عمرو بن نفيل؛ فلما سرى في مكة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعو إلى الله الواحد الأحد؛ أقبل عامر وليلى وأسلما، وكانا في طليعة المهاجرين إلى الحبشة لما اشتد أذى قريش، وقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق))[4]، تقول ليلى: "كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة؛ جاءني عُمر وأنا على بعيري نريد أن نتوجه، فقال: أين يا أم عبد الله؟ – وهي أم عبد الله بن عامر وبه كانت تكنى – فقلت: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله، فقال: "صحبكم الله"، ثم ذهب، فجاءني زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: ترجين أن يسلم؟ فقلت: نعم، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة، ولما علم المهاجرون بإسلام عمر عادوا أملاً في أن يكون فيه المنعة والحماية، فلما اشتد أذى الكفار هاجرت ليلى وزوجها عامر مرة أخرى عائدة إلى الحبشة، وعندما أذن النبي – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين بالهجرة إلى يثرب وقال: ((من أرد أن يخرج فليخرج إليها))[5] كانت ليلى بنت أبي حثمة هي أول امرأة هاجرت إلى المدينة، فقد كان أول المهاجرين – أبو سلمة – ثم تبعه عامر بن ربيعة وزوجه ليلى – رضي الله عنهم -، وتعد أول ظعينة تهاجر إلى المدينة، ويظن الكثير أن أول مهاجرة كانت أم سلمة – رضي الله عنها – ولكنها كانت ليلى وليست أم سلمة – رضي الله عنها – كما سيتضح من عرضنا لأم سلمة فيما بعد.

ولم تكن هجرة ليلى بنت أبي حثمة إلى المدينة (يثرب) مجرد انتقال من مكان إلى مكان، ولكن كان لها دور إيجابي هي وباقي المهاجرات والمهاجرين في توطيد دعائم الدين الإسلامي في قلوب اليثربيات واليثربيين، وليس أدل على ذلك مما رأيناه من خروج الأنصار والمهاجرين ونسائهم للقاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد علمهم بهجرته المباركة.

3. بداية الهجرة:

رقيقة بنت صيفي: وهي رقيقة بنت صيفي وقيل بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، عمها عبد المطلب بن هاشم، وكان أسن منه، وتتصل رقيقة برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هاشم بن عبد مناف فهو جدها وجد أبيه، ولما أدركها الإسلام كانت قد تطاول عليها القدم، وجاوزت حد الهرم، والتاريخ الإسلامي يحفظ لها وقفة مع الإسلام كثيراً ما يغفلها المؤرخون، فلقد كانت تراقب ما يدور على الساحة من حولها، وترى أن عدد المسلمين في ازدياد، وكذلك عذاب المشركين يحمي وطيسه كلما أسلم مشرك، وقد اجتمع كبار المشركين ليلاً ومعهم إبليس اللعين في صورة شيخ نجدي، وانتهى أمرهم إلى أن يقتلوا النبي – صلى الله عليه وسلم – في داره بيد فتية من كل قبيلة فتى؛ ليتوزع دمه – صلى الله عليه وسلم – في القبائل، تلك المرأة المسنة – رقيقة – هي التي استشفت خبر قريش يوم ائتمروا بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، فذهبت العجوز تجر أثقالها حتى انتهت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأخبرته الخبر، وحذرته من المبيت في داره، وحدثته بحديث القوم الذي لا يعلمه إلا الله، ثم هي ومن تآمروا عليه، ثم ذهبت العجوز التي أنافت على المائة، لتنقل الخبر، ولم تأمن على نقله ابنها مخرمة بن نوفل وهو من لحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وذوي صحبته؛ ذلك لأن الشك فيها وهي العجوز المسنة مستبعد، وما أطيب امرأة، وأجل منزلتها لاسيما وهي تذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل ما سبق به جبريل إليه – على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام -.

ولعل هناك من يقول: وأي عظمة تجدها امرأة سمعت خبراً فألقته كما سمعته؟

ذلك قول من لم يستبطن الأمر، ويتبين دخيلته، فإن فئة قليلة العدد، خطيرة الغرض؛ من هامات القوم، وأشداء فتيانهم، بيتوا أمرهم، واحتجزوا خبرهم عن بقيتهم، والممالئين لهم، وتعاهدوا وتعاقدوا ألا يذيعوه حتى يمضوه، فئة ذلك شأنها، وتلك غايتها؛ ليس بالسهل واليسير كشف أمرها، والوقوف على ذوات نفوسها، واستنقاذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من كيدها، وشر غائلتها، ومن هذا تكون – رقيقة – مشاركة في أعظم حوادث الإسلام خطراً، وأبقاها أثراً، وأدومها على مر الدهور ذكراً، وأقومها ببناء الإسلام، وبنقلها خبر قريش يكون البدء الفعلي للهجرة.

فهذه مواقف بعض النساء في الهجرة أحببنا التطرق إليها؛ حتى لا ينسى ذكرهن، وتمحى مواقفهن، وتندرس تضحايتهن:

ولو أن النسـاء كمـن ذكـرنا                    لفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيـب          ولا التـذكير فخـر للهلال

والحمد لله أولاً وآخراً.


 


[1] أخرجه ابن سعد (8/415).

[2] مغازي الواقدي (ج1ص269).

[3] مغازي الواقدي (ج1ص269).

[4] سيرة ابن هشام (ج1ص321).

[5]  سيرة ابن هشام (ج1 ص321).