وقفات من سورة النور: (آداب البيوت)

وقفات من سورة النور: (آداب البيوت)

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: إن البيوت لم تزين ولن تزين بأدب وعمل أعظم من تقوى الله عز وجل، وإن البيت إذا عمر بطاعة الله -عز وجل- من الكبير والصغير والذكر والأنثى كان هذا من أعظم الخصال التي تزخرف وتزين بها بيوت أهل الإسلام.

أيها المسلم: هذه وقفة نقفها مع بعض الآيات من سورة النور؛ لنرى الآداب الرفيعة التي اشتملت عليها، والتي ينبغي للمسلم التحلي بها والأمر بها، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} سورة النــور (27)(28)(29)، ففي هذه الآيات بيان بعض آداب البيوت،  فمن هذه الآداب: الاستئذان..

والاستئذان يختلف حكمه باختلاف البيت المراد أن يدخله الإنسان، ويمكن تقسيم ذلك إلى الآتي:

أولاً: بيوت غير المحارم، فيجب على المسلم البالغ العاقل الاستئذان عند دخول بيوت غير المحارم، ويحرم عليه دخولها بغير إذن أهلها؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة؛ ودليل الوجوب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} سورة النــور(27)، ولما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد-رضي الله عنه- قال: "اطلع رجل من حُجر-ثقب مستدير- في باب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع النبي -صلى الله عليه وسلم- مِدْريً -حديدةُ كالمشط يسوى بها شعر الرأس- يحك به رأسه، فقال: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).

ثانياً: بيوت المحارم؛ فيجب كذلك على كل مسلم بالغ عاقل الاستئذان عند الدخول على محارمه، كما يستأذن عند الدخول على غير محارمه؛ لما روى مالك عن صفوان بن سُليم عن عطاء بن يسار أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: (نعم). قال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (أستأذن عليها) فقال الرجل: إني خادمها! فقال رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: (استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟!)، قال: لا. قال: (فاستأذن عليها)1.

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "عليكم إذن على أمهاتكم"2، وروى البخاري في الأدب المفرد عن عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما-: "أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحُلُم، عزله، فلم يدخل عليه إلا بإذن"3.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما جُعِلَ الاستئذانُ من أجل البصر) يؤخذ من هذا الحديث أنه يُشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم لئلا تكون منكشفة العورة4. هذا الحكم في حق الأم، ومن مثلها من المحارم وأما الدخول على الزوجة فإنه لا يجب على الزوج أن يستأذن عند دخوله عليها، بل يجوز له أن يدخل بدون استئذان، ولكنه يستحب له أن يستأذن؛ لما روى الشيخان عن جابر-رضي الله عنه- قال: "فلما قدمنا المدينة ذهبنا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً -أي عشاءً- لكي تمتشط الشَّعِثةُ (أي المرأة المتفرق شعر رأسها) وتستحد المُغيبةُ)5. والمُغيبةُ المرأة التي غاب عنها زوجها.

وإذا كان الداخل أعمى فقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب الاستئذان على كل طارق بالغ عاقل، سواء كان رجلاً أو امرأة، مبصرًا أم أعمى، وذلك لأن من العورات ما يُدرك بالسمع، فدخول الأعمى على أهل البيت بغير إذنهم قد يؤذيهم، فقد يستمع إلى ما يجري من حديث الرجل لزوجته، فأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فذلك محمول على الغالب، ولا يُقصد منه الحصر6..

وكذلك يجب على الآباء أن يأمروا أطفالهم المميّزين أن يستأذنوا عليهم في أوقات ثلاث هي: قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة، وبعد صلاة العشاء؛ حيث يكون الآباء في حالة لا يحبون أن يطلع عليها أحد من الناس صغيرًا كان أم كبيرًا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} سورة النــور(58).. وكثير من المسلمين لم يعمل بهذه الآية؛ فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنها- قال: "آية لم يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن عليَّ". وفي بعض النسخ: "لم يؤمر بها"7. والمعنى على الروايتين: لم يعمل بها أكثر الناس.

أيها الناس: ومما يدخل في الاستئذان: إلقاء السلام، فإن ذلك سنة مستحبة عند الدخول، لما روى أبو داود بسنده عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامل- وهو كلدة بن حنبل- أنه استأذن على النبي وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي لخادمه: (اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: السلام عليكم، أأدخل؟) فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي فدخل"8. وروى أبو داود عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي في مَشْربه، فقال: السلام عليكم يا رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟9. وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سُئل عمن يستأذن قبل أن يسلم، فقال: لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام10 قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} فيه تقديم يعني حتى تسلموا ثم تستأذنوا، والسلام قبل الاستئذان11.

ومما ينبغي أن يعلم أنه يكره الإلحاح في الاستئذان، ذلك أن لله شرع الاستئذان ليكون لصاحب البيت الخيار في إعطاء الإذن لمن شاء ومنعه عمن شاء.

وينبغي للمستأذن عدم الإلحاح في الاستئذان إلا لضرورة، وإذا قيل له: ارجع فليرجع ولا حرج في ذلك؛ يقول الله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} سورة النــور(28) سورة النور(28).. وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع). قال مالك: "الاستئذان ثلاث لا أحب أن يزيد أحد عليها إلا من علم أنه لم يسمع فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع"، وصورة الاستئذان أن يقول الرجل: السلام عليكم أأدخل؟! فإن أذن له دخل وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ثم ينصرف من بعد الثلاث"..

قال العلماء: "إنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا، وإذا كان الغالب هذا فإن لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به"12.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: ومما يدخل في باب الاستئذان أن على المستأذن أن لا يقف عند الاستئذان في وسط الباب، ولكن عن ركنه الأيمن أو الأيسر، لما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن بُسر قال: كان رسول الله إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم"13.

كما على المستأذن أن يدق الباب برفق ولين؛ لما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس بن مالك قال: إن أبواب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تقرع بالأظافر14.. فعلى كل مسلم أن يتعلم كيف يطرق الأبواب دون أن يزعج المرضى أو النائمين.

كما ينبغي على المستأذن أن يفصح عن اسمه أو كنيته عند سؤاله عن ذلك، لما روى الشيخان عن جابر –رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في دَيْنٍ كان على أبي، فدققت الباب فقال: (من ذا؟) فقلت: أنا، فقال: (أنا، أنا)، كأنه كرهها..

ولما أخرجه الشيخان أيضاً عن أبي موسى الأشعري- لما جلس على بئر أريس، قال: وجاء أبو بكر، فاستأذن، فقال أبو موسى من؟ قال: أبو بكر، ثم جاء عمر فاستأذن، فقال: من؟ فقال عمر. ثم استأذن عثمان، فقال أبو موسى من؟ قال: عثمان.

فمن دخل مكانًا بغير إذن أهله، فمن حق صاحب المكان أن يخرجه حتى يستأذن؟ فإن أذن له دخل وإلا فلا يدخل، لما جاء عن كَلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى النبي في الفتح بلبن وجداية وضغابيس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بأعلى الوادي، قال: فدخلت ولم أُسلِّم، فقال: (ارجع فقل: السلام عليكم)15.

أيها الناس: ومن آداب البيوت أنه يحرم النظر والتطلع إلى بيوت الغير؛ لأن في ذلك كشفاً للعورات التي أمر الله بسترها، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو أن امرءًا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح) فتأمل كيف أهدر النبي –صلى الله عليه وسلم- عين هذا الإنسان الذي لم يتأدب بآداب البيوت ولم يغض طرفه عن النظر في بيوت الناس.

وقد قال -سبحانه وتعالى-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} سورة النــور(30)، وفي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري-رض الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إياكم والجلوس على الطرقات)، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها؟ فقال: (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه) قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

أيها الناس: اعلموا أنه لا يجوز دخول بيوت الآخرين بغير إذنهم إلا في حالات الضرورة؛ كأن يحدث حريقٌ في المنزل، أو يسمع صوت استغاثة، أو هجوم لص، أو ما شابه ذلك.

فيجب على كل مسلم ومسلمة التأدب بهذه الآداب، وأن يتقي الله في كل وقت وحين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


 


1 أخرجه مالك في الموطأ(2/734). وقال ابن عبد البر في"التمهيد" (16/229) "مرسل صحيح مجمع على صحة معناه".

2 التمهيد (27/152).

3 أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني في الأدب المفرد، رقم (808).

4 يراجع: فتح الباري (11/27).

5 رواه البخاري (5079) ومسلم- كتاب الرضاع(57).

6 روائع البيان (2 /138) للصابوني. بتصرف.

7 رواه أبو داود وصححه الألباني.

8 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(312)

9 رواه أبو داود، وقال الألباني "صحيح" "؛ ما في صحيح أبي داود، رقم (4333).

10 أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في الأدب المفرد( رقم(813).

11 تفسير ابن حاتم (8 /2567).

12 الجامع لأحكام القرآن (12/190) للقرطبي.

13 حديث صحيح صححه الألباني في صحيح أبي داود (4318).

14 حديث صحيح، صححه الألباني في الأدب المفرد (814).

15  رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(4311).