حديث أم زرع

حديث أم زرع

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير خلق الله أجمعين، أما بعد:

فإن في حديث أم زرع1 من الفوائد العظيمة، والدرر الثمينة؛ ما يعجز عن وصفه اللسان، وعن خطه البنان، ولذا فإننا سنتطرق إلى البحث عن فوائده وفرائده لنفصل مجمله، ونوضح مشكله، ونضع النقاط على الحروف؛ لاسيما ونحن نتدرج مع ألفاظه، وننساب في معانيه، ونتذوق بلاغته، حيث قد حوى عبارةً جزلة، ومعانٍ عربية فصيحة قلَّ من يعرفها دون تجزئتها وتوضيح كل مفردةٍ من مفرداتها، ولذا كان لابد من شرح هذا الحديث العظيم النفع، العميم الفائدة، والوقوف على كل جزئية فيه، والله الموفق لكل خير.

فإن بعض الأزواج يدخلون البيوت فيسكن من فيها بعد حركة، وتجف قلوب الزوجات والأولاد من غوائلهم؛ بسبب وجوههم العابسة، وأجبُنُهم المقطّبة، وتنخلع القلوب لمرآهم، وتنقبض النفوس حين تقع العيون عليهم، ولا أعتقد هذا إلا جهلاً منهم بدورهم في الحياة الأسريّة، وقوامتهم فيمن ولاّهم الله عليهم كأنهم لم يقرؤوا سيرة الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في بيته وبين أهله ونسائه، ومعاملته إياهم بلطف المعشر، وبشاشة الوجه، وطيب الكلام، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يبادر فيتقرب من نسائه ويمازحهن، ويتباسط معهنّ فيدخل السرور إلى قلوبهنّ، ومن هذا قوله لعائشة – رضي الله عنها -: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) وذلك حين حدثته السيدة عائشة – رضي الله عنها – قائلةً: "إنه اجتمع في الجاهلية إحدى عشرة امرأة في جلسة سمر، فقالت بعضهُنّ لبعض: تعالَين نتحدث عن أزواجنا، دون أن نكتم من أخبارهم شيئاً مدحاً أو ذمّاً، وأن نكون صادقاتٍ في وصفهم، على ألاّ يصل هذا إليهم…

فقالت الأولى: "زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى" والمعنى: أن زوجي متكبر سيء الخُلُق، لا أصل إلى رضاه إلا بشق النفس، وبذل الجهد، وشبّهته في رداءته بلحم جمل غثٍّ، شديد الهزال، على رأس جبل وعر، لا يوصل إليه إلا بعسر ومشقّةٍ.

وقالت الثانية: "زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره" والمعنى: أنها لا تستطيع ذكر زوجها بسوء – وكله مساوئ -، فقد يصل إليه ما قالت: فيطلقها، فتضيّع أطفالها، وتخسر بيتها.

وقالت الثالثة: "زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق" والمعنى: أن زوجها سفيه أحمق، عقله في لسانه، لا يرعى لها ذمة، ولا يحفظ لها مكانة، تتحمله على مضض، فلا تستطيع مجابهته فتطلَّق، وإن سكتت فلا يأبه لها.

وقالت الرابعة: "زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة" وكأنها تريد أن تقول: إن زوجي معتدل الأخلاق، متوسط في رضاه وسخطه، وشبّهتْه بليل تهامة – وتهامة مكةُ وجنوبُها، والنسبة إليها تهاميّ – لا تجد فيه حراً ولا برداً، ولا تخافه ولا تسأمه.

وقالت الخامسة: "زوجي إذا دخل فَهِد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد" وكأنها تريد أن تقول: زوجي كريم جواد، لا يسألني ما أفعله في البيت، فإذا خرج فهو أسد في الحروب، بطل في القتال.

وقالت السادسة: "زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث" تريد أن تقول: "أما زوجي فإن أكل أو شرب لم يترك لعياله شيئاً، فإذا نام لم يشعر بما حوله، أنانيٌّ لا يهتم بحال أهله إن مرضن أو اشتكين، شديد الرغبة في النساء.

وقالت السابعة: "زوجي عيايا، غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك، أو فلك، أو جمع كلاً لك" وكأنها تريد أن تقول: يا ويلي، إن زوجي عيِيٌّ لا يحسن تدبير الأمور، فيه غيٌّ وضلالة، أحمق لا يهتدي للتصرف الصحيح، يتخبط في أعماله، سريع إلى الضرب، فإما أن يشُجّ من خاصمه، أو يكسر له ضلعاً من أضلاعه، أو يجمع بين الشج والكسر، فأنا منه على أسوأ حال.

وقالت الثامنة: "زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب" وكأنها تريد أن تقول: أما زوجي فناعم الملمس  كالأرنب لِيناً وعطفاً، شديد الاعتناء بمظهره وطيب رائحته.

وقالت التاسعة: "زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد" أي: زوجي أصيل المنبِت، فارع الجسم، كريم اليد، سريع إلى إغاثة الملهوف، عظيم في قومه، قريب إلى نفوسهم، له الصدر في مجالسهم.

وقالت العاشرة: "زوجي مالك، وما مالك! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك" أي: إن زوجي – مالكاً – له إبلٌ كثيرة باركة في فِناء منزله، لا يوجّهها للكلأ والمرعى إلا قليلاً، فهو لم يقْتَنِها لينمّيَها، إنما جعلها للضيفان، فيقريهم من ألبانها ولحومها، وقد عهِدتِ الإبل منه ذلك، فإذا سمعن صوت المزاهر وآلات الطرب علمْنَ أنّ أجلَهنّ قد اقترب؛ لأنها لا تضرب إلا لقدوم الضيف.

وقالت الحادية عشرة: "زوجي أبو زرع فما أبو زرع! أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح، أم أبي زرع فما أم أبي زرع! عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع، طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها، جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً، قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً ثرياً، ركب سرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع، وميري أهلك، قالت: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع"، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة – رضي الله عنها -: ((كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع))، وفي رواية النسائي قال لها: ((ولكني لا أطلقك)).

وكأنها تريد أن تقول: أما زوجي أبو زرع – وما أدراك ما أبو زرع ؟ – فقد انتزعني من بيت فقير، وحياة بائسة إلى غنىً واسع، وحياة رغيدة، وأكرمني أيّما إكرام، طعام كثير، وخير وفير، .. وذهبٌ ملأ يديّ، ففرحت بما أُلْتُ إليه من نعمة، وعظّمني فعَظُمَتْ نفسي عندي، فقولي عنده القول الفصل، والخدم من حولي يأتمرون بأمري، ويسعَوْن إلى رضاي، أما أم أبي زرع: فإنها تمتلك الكثير من المال، وبيتها واسع رائع، أما ابن أبي زرع: فهو نشيط جميل المنظر، أما بنت أبي زرع: فهي من أجمل الفتيات، ذات خلق رفيع، تغار منها الأتراب، وأما جارية أبي زرع: فإنها أمينة تكتم السر، وتحافظ على البيت، وتعتني به.

إلا أن هذه النعمة لم تدُمْ لي، فقد خرج زوجي في بعض أعماله فرأى امرأةً جميلةً في مقتبل العمر، تلاعب ولدين لها، وتسقيهما من ثدييها لبن الأمومة اللذيذ، فأعجَبَتْه، فطلّق أم زرع وتزوّجها، ولم تلبث أم زرع أن تزوّجت رجلاً أصيلاً غنيّاً ذا همّة عالية، فأغدق عليها خيراً كثيراً، وأمرها بصلة أهلها وإكرامهم،… إلا أن قلبها لم يكن له، بل كان لأبي زرع، ألم يقل الشاعر:

نقّل فؤادَك حيث شئت من الهوى           ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفـتى            وحنينه أبـداً لأوّل منـزل

فكانت تقول: فلو جمعْتُ كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغرَ ما أعطانيه أبو زرع.

فلما قال لها النبي الكريم – صلوات الله تعالى وسلامه عليه -: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) فقالت: يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع، قال – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم فقد طلّقها، وإنّي لا أطلقك)).

وتسـارع بنت الصدّيــق      بكـلام حلـو ورقـيــق

بـل أيـن أبـو زرع أينـا      مـــن زوج بـر ورفيـق؟

أرسـول الله يشـابهـه الـ      أغـيــار بخلـق موثــوق

قد صاغك ربي من نـــور     وحبــاك بكـل التوفـيـق

أنت العـليـاء وذروتهــا      وســــواك بوهد التضييق

فكم يا ترى نجد بين الأزواج من المسلمين من هو مثل أبي زرع لأم زرع؟

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (5189)، ومسلم برقم (2448).