الإمام الراتب

الإمام الراتب

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الإسلام دين نظام، جعل لكل شيء قواعد وأحكام، وحاله ليس كما قال أعداء الإسلام: بأنه دين فوضى، أو أنه لا يعرف حقوق أفراده، وليس عنده ما يسوس أهله به، ولن نخوض في الرد على هذا الكلام، لأن زيفه واضح للعدو قبل الصديق، وكل فطرة سليمة تعارض ما قالوا، وهو خلاف الحقيقة، وعكس الواقع، لكننا سنأخذ مسألة واحدة من مسائل الدين حتى نرى شيئاً من النظام الإسلامي الذي منَّ الله – تعالى – على المسلمين، وهذه المسألة هي ما يتعلق بالإمام الراتب، نمر على بعض ما يتعلق به من مسائل لنتعلمها ونعمل بها، ونرى بها جمال ديننا.

الإمام الراتب: "الإمامُ الذي يقتدى به وجمعه أَئِمَّةٌ"1، "و(الإِمَامُ) من يؤتم به في الصلاة"2، وراتب: "راتباً: أي مقيماً"3، "(رتب) ر ت ب: الرُّتْبَةُ والمَرْتَبَةُ المنزلة، ورَتَبَ الشيء ثبت، وبابه دخل، وأمر رَاتِبٌ: أي دائمٌ ثابتٌ"4.

ومن التعاريف السابقة يتبين أن الإمام الراتب هو إمام المسجد الدائم، الذي وكل إليه أمر الإمامة، فإذا صلى الإمام الراتب جالساً فينبغي أن يصلى المأمومون جلوساً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "أن الإمام الراتب إذا صلى جالساً صلى المأمومون جلوساً؛ لأجل متابعته، فيتركون القيام الواجب لأجل المتابعة؛ كما استفاضت السنن عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون))5"6.

ولا يقدم على الإمام الراتب من هو أفضل منه بل هو أحق بالإمامة قال شيخ الإسلام: "ولهذا قال العلماء إن الإمام الراتب لا يقدم عليه من هو أفضل منه"7، وقد سئل الشيخ عبد الآخر حماد: "إذا كان للمسجد إمام معين من قبل الإدارة هل يجوز التقدم عليه دون إذنه حتى ممن يفضله؟.

فأجاب: الإمام الراتب هو الأحق بالإمامة في مسجده، ولا يجوز التقدم عليه إلا بإذنه حتى ممن يفضله، ما دام هذا الإمام الراتب قارئاً يقرأ القرآن على وجه تحصل به براءة الذمة، ذكر ذلك الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع، واستدل بقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن الرجل الرجلَ في سلطانه))8، قال – رحمه الله -: "ومعلوم أن إمام المسجد سلطانه، والنهي هنا للتحريم، فلا يجوز للإنسان أن يؤم في مسجد له إمام راتب إلا بإذن الإمام أو عذره، وكما أن هذا مقتضى الحديث فهو مقتضى القواعد الشرعية؛ لأنه لو ساغ له أن يؤم في مسجد له إمام راتب بدون إذنه أو عذره؛ لأدى ذلك إلى الفوضى والنزاع" والله أعلم"9.

"واختلفوا هل يجوز إعادة الصلاة بأذان وإقامة في مسجد له إمام راتب؟ فقال أبو حنيفة: يكره ذلك، وقال مالك: إن كان للمسجد إمام راتب فصلى فيه إمامه؛ فلا يجوز أن يجمع فيه تلك الصلاة على الإطلاق، وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز ذلك في مساجد الأسواق التي تتكرر فيها الصلاة دون مساجد الدروب، وقال أحمد: يجوز ذلك على الإطلاق"10.

وإذا اشتكى الإمام فالأولى أن يستخلف غيره من أن يصلي قاعداً؛ فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله؟ قالت: بلى… إلى أن قالت… فأرسل النبي إلى أبي بكر بأن يصلي…الحديث"11، "فيه دليل على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بالقوم قاعداً؛ لأنه استخلف أبا بكر ولم يصل بهم قاعداً غير مرة واحدة، وفيه صحة إمامة المعذور لمثله"12.

والمبادرة إلى الصلاة أولى من انتظار الإمام، ويتقدم حينها نائبه، أو من ترضاه الجماعة، فقد حضر وقت الصلاة والرسول – صلى الله عليه وسلم -لم يأت، فأشار بلال – رضي الله عنه – إلى أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أن يقيم الصلاة، في الحديث "فجاء بلال إلى أبي بكر – رضي الله عنهما – فقال: يا أبا بكر إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد حبس، وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر – رضي الله عنهما -"13.

وأن المبادرة إليها أولى من انتظار الإمام الراتب، وأنه لا ينبغي التقدم على الجماعة إلا برضا منهم يؤخذ ذلك من قول أبي بكر "إن شئت" مع علمه بأنه أفضل الحاضرين"14، وقال المرداوي: "إذَا تَأَخَّرَ الْإِمَامُ عن وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ رُوسِلَ إنْ كان قَرِيبًا، ولم يَكُنْ مَشَقَّةٌ، وَإِنْ كان بَعِيدًا، ولم يَغْلِبْ على الظَّنِّ حُضُورُهُ صَلَّوْا، وَكَذَا لو ظَنَّ حُضُورَهُ، وَلَكِنْ لَا يُنْكِرُ ذلك، وَلَا يَكْرَهُهُ، قَالَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ وبن تَمِيمٍ"15.

والإمام الراتب لا يقدم العَشاء على العِشاء فهذا ليس له بل لغيره فعن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – قال: "ضفت النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة؛ فأمر بجنب فشوي، وأخذ الشفرة، فجعل يحز لي بها منه، قال: فجاء بلالٌ فآذنه بالصلاة، قال: فألقى الشفرة وقال: ((ما له تربت يداه))، وقام يصلي"16، قال صاحب عون المعبود: "استدل الإمام البخاري بهذا الحديث على أن الأمر بتقديم العشاء على الصلاة خاص بغير الإمام الراتب، قلت: هذا الاستدلال صحيح، وحسن جداً"17.

فهذه بعض المسائل التي تخص الإمام الراتب لنرى فيها النظام الإسلامي، ونعلم جهل من قال بأنه لا نظام في الإسلام، ولو أنه عرف الإسلام حقيقة ما قال ذلك، وهذا شيء يسير أحببنا طرقه، وإلا فالدين كله مبنيٌ على قواعد متينة من الأسس والقواعد والأنظمة، كيف لا يكون ذلك والله – سبحانه – هو الذي شرعه وهو الخبير، وهو العليم الحكيم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 مختار الصحاح (1/20).

2 المصباح المنير (1/23).

3 تاج العروس (1/7598).

4 مختار الصحاح (1/267). 

5 البخاري (648)، مسلم (625).

6 الفتاوى الكبرى (2/331).

7 منهاج السنة النبوية (4/281).

8 مسلم (1078).

10 الوزير ابن هبيرة الشيباني اختلاف الأئمة العلماء (1/95، 96).

11 البخاري (646)، مسلم (629).

12 عمدة القاري (5/216).

13 البخاري (1142)، مسلم (639).

14 الفتح 3/ 76.

15 الإنصاف للمرداوي (2/217).

16 أبي داود (160)، صححه الألباني في صحيح أبي داود (173).

17 عون المعبود(1/224).