الإتقان

  الإتقان                                        

  محمد صالح المنجد

 

 

عناصر الموضوع:

1. إتقان الله في مخلوقاته

2. أمر الله عباده بالإتقان

3. مصطلح الجودة

4. مجالات الإتقان

5. تضمين الشريعة  غير المتقن في الحرف والمهن

6. ضياع الإتقان اليوم أحدث تخلفاً عظيماً

7. أسباب عدم إتقان العمل

8. عوامل إتقان العمل

9. المعتقد الغربي للجودة

10. ثمرات الإتقان

 

إتقان الله في مخلوقاته

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ..

فإن الله سبحانه وتعالى قد أحسن كل شيء خلقه، وقال -عز وجل- { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ }(النمل: من الآية88) فأحسنه وجوده وأتقنه، وجعله بديعاً في هيئته ووظيفته على حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى، يتجلى إتقان الله -عز وجل- في هذه المخلوقات التي خلقها فلو بحث الباحث المدقق عن خللٍ في خلق الله ما وجد، { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }(الملك: من الآية3) .

أَتْقَنَ كُلَّ صَنْعةٍ وأَحكَمَا       مَنْ ذَا يَرُدُّ ما به قد حَكَمَا

وكلما تدبرت آثار خليقته ترى التقدير بميزان، والحساب بإتقان، { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49)

الَلَهُ أَحكَمَ خَلقَ ذَلِكَ كُلِّهَ       صُنعاً وأتقَنَ أَيَّما إِتقانِ

قال ابن القيم رحمه الله : والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته، ويحب مقتضى صفاته، وظهور آثارها في العبد، فإنه جميل يحب الجمال، عفو يحب أهل العفو، كريم يحب أهل الكرم، عليم يحب أهل العلم، وتر يحب أهل الوتر، قوي والمؤمن القوى أحب إليه من المؤمن الضعيف، صبور يحب الصابرين، شكور يحب الشاكرين.

أمر الله عباده بالإتقان

أمر عباده بالإحسان في أعمالهم، وأحب ذلك، فقال -عز وجل-: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(البقرة: من الآية195). هذا الإحسان، هو الإتقان والإحكام، وهذه القضية وهي تجويد شيء وإحسانه وإتقانه من المطالب الشرعية العظيمة في ديننا، ومبنى الدين على هذا فيما أمر به في كل شيء حتى ذبح البهائم، (( وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )) .

عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: شَهدت مَعَ أَبِي جَنَازَة شَهِدَهَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا غُلاَمٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ، فَانتُهي بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يمكَّن لَهَا .

قَالَ : فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((سَوّوا لَحْدَ هَذَا)).

حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّة، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِم فَقَالَ: ((أَمَا إِنَّ هَذَا لاَ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلاَ يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِن)) وفي لفظٍ (( ولكن أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه )) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان .

قوله ((إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)) أي عمل، لأن النكرة عملاً في هذا السياق سياق الشرط تفيد العموم، ولذلك فإن الله -سبحانه وتعالى-  يحب من سلوك المؤمن الإتقان، وهذا يشمل أعمال الدنيا وأعمال الآخرة، والله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، كما في صحيح مسلم. يعني أوجب عليكم الإحسان في كل شيء من أعمالكم، على بمعنى في، والمراد بالإيجاب الندب المؤكد، وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان لكن في كل شيء بحسبه، كما ذكر ابن رجب رحمه الله. فالمسلم مطالب بالإتقان في أعماله التعبدية والمعاشية، إحكاماً وإكمالاً، تحسيناً وتجويداً، وإتقاناً، فحُق عليه أن لا يأتي بشيء من أعماله إلا صححه وأكمله وكمله، ولذلك يقبل ويكثر ثوابه، والإحسان والإتقان والإكمال والتجويد والتحسين، هذا الآن مما يتنادى به البشر، في التخطيط والتنفيذ، وقد جاء الإسلام بذلك من قديم، قال أحد السلف : لا يكن هَمُّ أحدكم في كثرة العمل ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه.

المُلكُ أَن تَعمَلوا ما اسطَعتُمو عَمَلاً       وَأَن يَبينَ عَلى الأَعمالِ إِتقانُ

وإتقان العمل يكون : بإحكام الشيء وضبطه على أحسن وجه .

وإكماله وعدم تركه ناقصاً .

قال -عليه الصلاة والسلام- : ((مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ.فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ ، هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ، فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ )) رواه البخاري ومسلم .

بعض الناس يعمل ولا يحسن، وبعض الناس يبدأ ولا يكمل،

وَما كُلُّ هاوٍ لِلجَميلِ بِفاعِلٍ       وَلا كُلُّ فَعّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ

حثت الشريعة على الإتقان، إنها أمانة، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}(الأحزاب: من الآية72) .

فإتقان العمل من الأمانة، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} .

مصطلح الجودة

ظهر في هذا الزمان مصطلح ( الجودة ) الجودة النوعية – الجودة الشاملة، وجعلوا لذلك مقاييس وجوائز، جائزة الجودة النوعية، مؤتمر الجودة الشاملة، مفاهيم إدارية في الإدارة الحديثة، وهي موجودة في دين الإسلام من زمان، والحديث عن الجودة والإتقان أصلاً هو حديث إسلامي، لكن بعض الناس إذا جاء الغرب بشيء فتن به، ويظن أنهم جاؤوا به ولم يسبقهم أحد إلى ذلك، المفردات التي جاءت في الشريعة في هذه القضية الإتقان، الإحسان، التجويد، الإحكام، قال الله -سبحانه وتعالى-  : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(هود: من الآية1).

أحكمت : قال السعدي رحمه الله :  أتقنت وأحسنت .

فالإتقان إذاً هذا مما بني عليه الدين، إذا أحسن الناس فأحسن معهم، ومما ينبغي للمسلم أن يعوّد نفسه عليه، وقال المناوي : ذُكر أن صانعاً عمل عملاً تجاوز فيه، ودفعه لصاحبه، فلم ينم ليلته كراهة أن يظهر من عمله عمل غير متقن . فشرع في عمل بدله حتى أتقن ما تعطيه الصنعة، ثم غدا به لصاحبه، فأخذ الأول وأعطاه الثاني، فشكره، فقال : لم أعمل لأجلك، بل قضاءً لحق الصنعة، كراهةَ أن يظهر من عملي عمل غير متقن .

مجالات الإتقان

مجالات الإتقان كثيرة، نحن نراها في العبادات بأنواعها، فمثلاً في الوضوء يقول النبي -عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ))

((مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ وَتَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ طُهُورَهُ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ وَلَمْ يَلْغُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى))

قال تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}(البقرة: من الآية43) وهذه الإقامة تتضمن الإتقان والإحسان والإتمام، وكذلك فإن هذا الإتقان يعود على صاحبه بالمنفعة العظيمة، قال مطرف بن عبد الله: شهدت جنازة واعتزلت ناحية قريبا فصليت ركعتين كأني خففتهما لم أرض إتقانهما ونعست فرأيت صاحب القبر يكلمني.

فقال: ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما!

قلت: قد كان ذلك.

قال: تَعملون ولا تَعلمون [ عمل من غير وجود علم يقيني]، ونحن نعلم [عين اليقين]  ولا نستطيع أن نعمل؛ لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها .

وفي موضوع التكفين، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- : ((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ)) . رواه مسلم . في حفر القبر قال : ((احْفِرُوا ، وَأَعْمِقُوا ، وَأَحْسِنُوا)) رواه النسائي وهو حديث صحيح .

فهذا هو الإتقان في التوسعة والعمق، لا توسعوا كثيراً ولا تضيقوا أيضاً .

وفي الصوم، مطلوب الإحسان . وفي التربية ((أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا،)) الحديث رواه البخاري.

الإتقان في العلم

العلم لا بد فيه من الإتقان، بأي شيء، بمراجعة الحفظ، بالفهم والتدبر فيه، وبالنظر والمطالعة والمذاكرة، وبالعمل به، وبتدريسه والاستعانة بذلك على تثبيته، والإتقان في طلب العلم بالبدء بالأصول والقواعد، قال العلماء: من لم يتقن الأصول؛ حُرم الوصول .

فهنالك أصول للدين في العقيدة والتوحيد، وهنالك أصول للفقه، هنالك أصول للحديث في مصطلح الحديث، وهناك أصول للتفسير في قواعد التفسير، ولا بد من إتقانها والإلمام بها لإحكام عملية الطلب، إتقانه شيئاً فشيئاً، وأخذه يكون بالبدء بكباره قبل صغاره، والأسس والقواعد قبل الفروع، ومن رام العلم جُملة ذهب عنه جُملة .

والتأصيل والتأسيس، والعناية بالمختصرات، حفظاً وضبطاً وفهماً وشرحاً، القراءة على شيخ متقن، عدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل ضبط الأصول.

 عن أبي عبد الرحمن السّلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله ابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عشر آياتٍ لم يجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل.

قالوا: فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً . العلماء الربانيون يتميزون بالحفظ والإتقان .

قال أبو عيسى الترمذي في سننه : إنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان.

وقال ابن عبد البر: " أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء ، وإنما العلماء أهل الأثر ( الأحاديث والسنن المرويات )  والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والمَيْز [التمييز بين الصحيح والضعيف] والفهم .

قال الذهبي شاكياً حال زمانه: وأما اليوم فقد اتسع الخرق، وقلّ تحصيل العلم من أفواه الرجال، بل ومن الكتب غير المغلوطة، وبعض النقلة للمسائل قد لا يحسن أن يتهجَّى .

وصلت رسالة من طالب دكتوراه يسأل عن موضوع مقترح وقال : أرجو ( بألف الجماعة ) والتاء المضمومة مفتوحة،  هذا طالب دكتوراه .

الإتقان في قراءة القرآن

أما في قضية حفظ القرآن فإن الإتقان مهم جداً فقد قال -عليه الصلاة والسلام- : ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ)) رواه البخاري ومسلم .

إذاً الحذق الإتقان، المهارة، هذا الذي يقرأ دون توقف، متقن للحروف، عارف بالوقوف، مجود على القواعد .

لقد حرص المسلمون على إتقان تجويد كتاب الله تعالى، وإخراج كل صوت من مخرجه، ولما كان بعض الحروف فيها تقارب في المخرج ضبطوها، وبينوا صفاتها، وحفظوها من الطغيان والتطفيف فلم يهملوا تحريكاً ولا تسكيناً ولا تفخيماً ولا ترقيقاً، وضبطوا مقادير المدَّات في التجويد، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف والصفات، ولذلك صار في علم القرآن وقراءة القرآن مجال عظيم للإتقان، وفيه تفاوت كبير وصار هنالك دقة رواية، وسلامة ضبط وجودة الأداء.

الإتقان في جمع القرآن

 أما مسألة جمع القرآن فقد كان الإتقان فيه عجبا، فقد أسندت المهمة إلى رجل شاب عاقل (لا نتهمك) كما قال أبو بكر رضي الله عنه لزيد بن ثابت رضي الله عنه، من كتبة الوحي، فتتبع القرآن فاجمعه .

أولاً الإحساس بعظم المهمة يدل على رغبة هذا الشخص وما استجمع له من قواه لأجل الأداء، قال زيد : فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ ] جَمْع عَسِيب وَهُوَ جَرِيد النَّخْل، [.

وَاللِّخَافِ ] جَمْع لَخْفَة، قيل هي:  الْحِجَارَة الرِّقَاق. أو صَفَائِح الْحِجَارَة الرِّقَاق[.

وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ . رواه البخاري .

فانظر كيف اختار الصديق رحمه الله ورضي عنه وأرضاه لهذه المهمة شاباً بهذه المؤهلات وهذه الصفات، وفي عهد عثمان تم أيضاً الجمع الثاني بغاية الإتقان، فكان الجمع الأول موجوداً في هذه الألواح واللخاف والصحف، وهذه العُسب ونحوها من عظام الأكتاف التي كان يكتب عليها، في عهد عثمان تم جمع هذا كله في مصحف واحد، فكانت الخطوات كما يلي :

-أن تنسخ الصحف الأولى التي جمعها زيد بن ثابت رضي الله عنه في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مصاحف متعددة

 -أن ترسل نسخة إلى كل مصر من الأمصار فتكون مرجعا للناس هناك .

-تحرق ما عدا هذه النسخ .

وكان التنفيذ في أواخر سنة 24 هـ وأوائل سنة 25 في لجنة من الصحابة، وحددت الأسس التي سيتم العمل بناء عليها:

1- لا يكتب شيء إلا بعد التحقق من أنه قرآن .

2- لا يكتب شيء إلا بعد العلم بأنه استقر في العرضة الأخيرة .

3- لا يكتب شيء إلا بعد التأكد أنه لم يُنْسخ لفظه.

4- لا يكتب شيء إلا بعد عرضه على جمع من الصحابة .

5- إذا اختلفوا في شيء من القرآن كتبوه بلغة قريش .

6- المحافظة على القراءات المتواترة ولا تكتب قراءة غير متواترة .

7- اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات يرسم بصورة واحدة .

8- اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات ويمكن رسمه في الخط محتملاً لها كلها يكتب برسم واحد مثل : {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}،بدون نقط،  يمكن أن تقرأ أيضاً (فتثبتوا) .

9- اللفظ الذي تختلف فيه وجوه القراءات ولا يمكن رسمه في الخط محتملاً لها يكتب في نسخة برسم يوافق بعض الوجوه وفي نسخة أخرى برسم يوافق الوجه الآخر. مثل { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب }، وفي نسخة أخرى {وأوصى إبراهيم بنيه ويعقوب}.

ما يمكن تكتب : وصى وأوصى برسم واحد .

وبهذا المنهج الدقيق والأسس السليمة كتب المصحف العثماني في غاية الدقة والضبط والتحري والإتقان، وصدرت الأمة عنه .

الإتقان في جمع السنة النبوية

إذا جئنا للإتقان في جمع السنة النبوية، والمهمة التي انتدب لها عمر بن عبد العزيز رحمه الله الجمع العظيم من المحدثين من أهل الإتقان، كالزهري وغيره، وفي النصف الأول من القرن الهجري الثاني ضُمت الأبواب بعضها إلى بعض وخرج موطأ مالك آية، وبعده البخاري ومسلم وأصحاب السنن، ولما رأي البخاري هذه التصانيف الجامعة للحسن وغيره، مما نزل عنه اتجهت همته لجمع الحديث الصحيح، وقوى ذلك ما سمعه من أستاذه إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.

لقد أتقنه أيما إتقان، حتى غدا أصح كتاب بعد القرآن.

وقال : صنفت جميع كتبي ثلاث مرات، و ما زال ينقحه ويراجعه .

وقال : صنفت ( الجامع ) من ستمائة ألف حديث، فتم انتخاب صحيح البخاري من ست مائة ألف حديث في ستة عشر سنة، قال : وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله.

وقال: ما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى، وتيقنت صحته بعد صلاة ركعتين.

وسماه: الجامع الصحيح المسند .

كل محدث له تلاميذ، وتلاميذ الشيخ طبقات، فالطبقة الأولى من لازموه في حضره وسفره وأخذوا عنه في أحواله وراجعوا وسمعوا منه الحديث مراراً وتكراراً، إلى أن تنزل إلى واحد ما سمع منه الحديث إلا مرة واحدة، وكان البخاري رحمه الله يلتزم في إخراجه أحاديث الطبقة الأولى، وقد ينزل للثانية عن الراوي، ثم اشترط أنه لا بد أن يكون الراوي ثبت سماعه من الراوي الذي قبله ولو مرة .

المعاصرة وإمكان اللقاء شرط مسلم، أما البخاري فعنده قضية ثبوت السماع، ولذلك جاء هذا الصحيح آية في الإتقان، في علم الحديث الإتقان هو الميزان الذي يقبل به حديث الراوي أو يُرد، فمن شرط حديث الراوي الضبط، وهو الدقة في الحفظ، وإتقان الحفظ، قالوا: تُقبل رواية المتقن الضابط وليست العبرة بكثرة المرويات بل بما يتقنه.

قال عبد الرحمن بن مهدي : الحفظ الإتقان . هذا تعريفه عند عبد الرحمن المهدي .

من كثر حفظه ولم يتقن لم يقبل حديثه، وقد تُكلم في إتقان سليمان بن إبراهيم لأجل هذا، وقال أبو عبد الله الدقاق المحدث : وتُكلم في إتقان سليمان، والحفظ الإتقان لا الكثرة .

وَسَأَلَ مُهَنَّا أَحْمَدَ مَا الْحِفْظُ ؟ قَالَ: الْإِتْقَانُ هُوَ الْحِفْظُ .

قال الذهبي: " كان أبو قتادة الحراني من عُبّاد الجزيرة، فغفل عن الإتقان، فوقعت المناكير في أخباره، فلا يجوز أن يحتج بخبره.

كم من رجل صالح، لو لم يحدّث لكان خيراً له، لأنه لم يكن من أهل الحديث ولا من أهل الصنعة، ولا يجيد الحفظ، ولا يضبطه لا صدراً ولا كتابة.

َقَالَ مَالِكٌ : لَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُ قَالَ فُلَانٌ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهِ ، فَمَا أَخَذْت مِنْهُمْ شَيْئًا، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ [ ما كانوا متقنين له]، وَيَقْدَمُ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ شَابٌّ فَنَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ. وهو شاب لأنه متقن .

قال الذهبي: ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جِهْبِذَاً، إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة، والسهر، والتيقظ، والفهم، مع التقوى والدين المتين، والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري، والإتقان، وإلا تفعل

فدع عنك الكتابة لست منها .. ولو سودت وجهك بالمداد…

فإن آنست يا هذا من نفسك فهماً وصدقاً وديناً وورعاً وإلا فلا تتعنَّ . تذكرة الحفاظ .

هذا الإتقان الذي ميز شعبة بن الحجاج عن غيره، كان لا يرضى يسمع الحديث عن غيره، تثبت، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع، فإن شئت تسألني عن الكلام فأخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك عن الكلام . مناقب الإمام .

الإتقان في تأليف الكتب

وجدنا في تصنيف العلماء للكتب الإتقان، أبو عبيدة القاسم بن السلام جمع صنوفاً من العلم، لماذا سارت كتبه؟!،لماذا سارت كتب بعض المصنفين؟! لأجل إتقانهم، لأن الواحد منهم يصنف كتابه في أربعين سنة .

قال أبو عبيد كنت في تصنيف هذا الكتاب ( غريب الحديث )  أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيء فيقيم عندي أربعة أشهر، خمسة أشهر، فيقول: قد أقمت الكثير. الإمام أحمد بإتقانه للمسند قال عنه ابن الجوزي : طاف أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند .

وابن عبد البر مكث ثلاثين سنة في تأليف كتابه "التمهيد"، ولذا جاء على هذا الوضع من الإتقان والتحرير والدقة.

الإتقان في تعلم اللغات

قضية الإتقان هذه وجدناها حتى في تعلم اللغات، وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه رأساًَ في هذا الباب، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َقَالَ: ((يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي)). [أَيْ لَا فِي قِرَاءَتِي علي وَلَا فِي كِتَابَهِ إلى الآخرين، أخشى أَنْ يُزِيدَوا فِيهِ أَوْ يُنْقِصَوا ِ]

قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ[أَتْقَنْته وأحكمته]. هذا تعلم اللغة السرياينية، لغة اليهود .

قال : فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ. رواه الترمذي وأبو داود وهو حديث صحيح .

تعلم زيد بن ثابت الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خدام رسول الله صلى الله عليه وسلم. البداية والنهاية .

رأينا الإتقان في فتاوى العلماء المحسنين، أهل القدم الراسخ في الفقه، والعالم إذا لم يتبين في فتواه ولم يكن متأكداً من الجواب، جعل الحرام حلالاً، والحلال حراماً، وهكذا القاضي، إذا لم يكن متقناً في قضائه، ربما أُزهقت أرواح، وسُجن أبرياء.

الإتقان في الأعمال الدنيوية

لقد كانت قضية الإتقان عند المسلمين ليست خاصة بالشعائر التعبدية، ولا بالعلوم الشرعية، وإنما أيضاً في الأعمال الدنيوية، لأن الدين يُخدم بها.

الإتقان في البناء

ألا ترى فن التشييد والبناء يُخدم به بنيان المساجد، قص الله علينا في كتابه إتقان ذي القرنين في البناء، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً*قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} ما أخذ منهم قرشاً {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} (الكهف:94-95) .

فأعينوني : استثارهم، نأتي للهدف والنتيجة وهي تحصل بماذا : {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} (الكهف:93) .

وضع خطة العمل، وما أعطاهم كتالوج ضخم كبير، بل أعطاهم الخطة مفصلة على أجزاء، على مراحل :

{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي: تجميع قطع الحديد، ثم اجعلوا بعضها فوق بعض {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}.ثم جاءت مرحلة { قَالَ انْفُخُوا } وأوقدوا النيران، وهاتوا المنافخ، حتى إذا جعله ناراً لتصهر هذه القطع المنفصلة، فتلتحم وتصير قطعة واحدة. { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } أي: النحاس المذاب، لتكون سبيكة من الحديد والنحاس غير قابلة للاختراق، فملأ المسافة بين الجبلين بما يشبه الجبل الثالث، وصار سداً منيعاً محكماً ملتصقاً من هذه الجهة  لهذا الجبل، ومن هذه الجهة لهذا الجبل مرتفعاً في علو الجبلين، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}. وملأ الفراغات، { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } فما استطاعوا أن يظهروه من ارتفاعه، { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } من سمكه وإتقانه وأحكامه، وهذه الرحمة من الله، فإذا جاء وعد الله بخروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان نقبوه وخرجوا، هذا الإتقان في الصنعة بهذه الطريقة العظيمة يدل عليها ذلك البنيان.

قال ابن كثير: وأما السد فقد بناه ذو القرنين من الحديد والنحاس وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم. فلو قيل ما هو أنفع بنيان في العالم، فهو سد القرنين، لأنه لو لم يكن موجوداً لخرجوا على الناس وأفسدوا الدنيا، فلا الأهرامات، ولا تمثال الحرية، ولا برج إيفل، ولا البرجين التوأم، ولا الفنادق الشامخات، أكثر بنيان فيه فائدة للبشرية، ما هو سد العالي ولا السد الواطي، هو سد ذي القرنين.

 وقد تعلمنا من سليمان عليه السلام إتقاناً عجيباً في التصميم والبنيان، استعمال مواد غير معتادة، وربما لا يستطيع البشر أن يعلموا مثلها حتى الآن، فلما أرادت ملكة سبأ أن تأتي وهؤلاء أهل دنيا كفار، أراد أن يفاجئها بما يبهرها حتى تستلم، وتسلّم فتسلم، غير قضية العرش، صنع سليمان -عليه الصلاة والسلام- بالجن الذين سخرهم الله له والصّناع الحذاق الذين عنده قصراً من الزجاج، -أنا لا أدري هل يوجد في العالم قصر من الزجاج ؟ كله زجاج، قال تعالى{ قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ ( هذا القصر كله أرضه وسقفه وجدرانه) مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (النمل:44) .

قال ابن كثير رحمه الله : وذلك أن سليمان، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيما من قوارير، أي: من زجاج، وأجرى تحته الماء، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه.( هذا من باب الإفحام في الدعوة، والإبهار للكفار حتى يستسلموا ويدخلوا في دين الواحد القهار ) فلما شاهدت ما شاهدت علمت أن هذا نبي، تابت ورجعت إلى الله قائلة { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ } .

النبي -عليه الصلاة والسلام- في قضية البنيان اهتم بمسألة الإتقان في بناء المسجد النبوي كما جاء في حديث طلق بن علي رضي الله عنه :  جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ عَمَلُهُمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ عَمَلَهُمْ أَخَذْتُ أُحْذِقُ الْمِسْحَاةَ (أي: المجرفة من الحديد) فَخَلَطْتُ بِهَا الطِّينَ، فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ أَخْذِي الْمِسْحَاةَ وَعَمَلِي، فَقَالَ: ((دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ)). رواه أحمد والطبراني في المعجم الكبير . وفي رواية: ((قَرِّبُوا الْيَمَامِيّ مِنْ الطِّينِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُكُمْ لَهُ مَسًّا وَأَشَدُّكُمْ لَهُ سَبْكًا)). إتقان، وفي لفظ لابن حبان : فَقَلَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ أَأَنْقُلُ كَمَا يَنْقُلُونَ ؟ أنا أعمل في نقل الحجارة ؟

فَقَالَ: ((لا وَلَكِنْ اِخْلِطْ لَهُمْ الطِّين فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ)) " فتح الباري.

قال الهيثمي: "وفيه أيوب بن عتبة واختلف في ثقته .

إذاً مسألة الإتقان في البنيان، واستعمال هذا الإتقان في بناء المساجد التي تقي الناس من المطر، التي تقي الناس من الحر، التي تمكّنهم من العبادة، دون تزويق ولا تحمير ولا تصفير ولا تلوين ولا زخرفة تشغل المصلي وتذهب بلبه .

كانت عملية حفر الخندق متقنة لدرجة أن قريش والعرب وغطفان وعشرة آلاف مقاتل ما استطاعوا أن يقتحموا، لقد كانت المدينة و لا زالت محاطة بالحرتين من المشرق والمغرب ومن الجنوب البنيان والبساتين وكان المنفذ الوحيد الذي يمكن للجيش الغازي أن يدخل منه المدينة هو الجهة الشمالية، فحفر الخندق من الشمال، من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية، ووزع الحفر بين المسلمين، فأعطي لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأتموا الحفر في مدة وجيزة، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع، وعمقه لا يقل عن سبعة أذرع، وعرضه لا يقل عن تسعة، هذا الإتقان للعمل جعل كفار العرب يقفون حائرين عنده، لا يستطيعون اقتحام المدينة، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ}(الأحزاب: من الآية25) .

الإتقان في التخطيط

الإتقان يكون في التخطيط، وكذلك في وضع المتطلبات اللازمة لسد الاحتياجات المستقبلية، وهذا ما فعله يوسف –عليه السلام- بمهارة لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وابتدأت المسألة برؤيا الملك، وعبرها يوسف -عليه الصلاة والسلام- ووضع الخطة، وهذه الخطة واضح من كلام يوسف -عليه السلام- أنها المسألة ليست مجرد تأويل رؤيا، تأويل الرؤيا أن هناك سبع سنوات رخاء، سيعقبها سبع سنوات جدب، سيعقبها السنة الخامسة عشرة رخاء، هذا تأويل الرؤيا، لكن يوسف قدّم برنامج عمل، ولذلك الملك الحاكم لما رأى أمامه برنامج عمل جاهز أخذ به، { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } تزرعون سبع سنين متواليات، لأنها خصب، ومطر، إذن تعملون على هذا أولاً، تستثمرون الخصب للمستقبل، ثم نظام التخزين، { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ }، خزنوه بالسنابل لئلا يسرع إليه الفساد، إلا المقدار الذي تأكلونه وليكن قليلاً بغير إسراف، ليبقى لكم ما يقيتكم في السبع الشداد، { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ }، المجدبات متواليات أيضاً، تستهلك ما تم تجميعه في سني الخصب، يأكلن ما قدمتم لهن، فليس في تلك السبع المجدبات نبات، وبشرهم بأن السنة الخامسة عشرة ستكون سنة تغيير، { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } وغلّات البلاد وعصر الزيت ونحو ذلك .

كانت نتيجة التخطيط المتقن، خروج الناس من الأزمة سالمين، وفاضت خيرات مصر على بلاد الشام على ما جاورها، فلذلك جاء أولاد يعقوب وصار الناس يتسامعون بذلك، وصار النفع العظيم، بخطة يوسف المتقنة -عليه السلام- وهو المؤيد بالوحي من الله -عز وجل- .

الإتقان عند الأنبياء

قضية الإتقان عند الأنبياء واضحة جداً، ولو أخذنا مثلاً حتى في مسألة الصناعة، ما علّمه الله لداود -عليه السلام- ، فقد علّمه صنعة الحديد، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} سابغ لكل الجسم { لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } لتحصنكم من بأسكم وتقيكم ضربات المقاتلين  { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} هذا الدروع تُلبس، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أول من صنع الدروع وسردها والحلق، داود -عليه السلام- ، أول من صنع الدروع والسرد فيها والحلوق فيها داود -عليه السلام- ، وكانت من قبل صفائح، والدرع يجمع الخفة والحصانة، لتحرزهم من بأس العدو، وطعن السلاح، ومن فضل الله أنه ألان لداود الحديد، ليعملها سابغات، وعلّمه -عز وجل- وأمره أن يقدر في السرد، فيقدره حلقاً، ويدخل بعضها في بعض، وقال له :{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (11) سورة سبأ، تقي كل الجسد، ولا تضيق على لابسها،{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} فالمسمار بحسب الحلقة، فلا تجعل المسامير دقاقاً فتفلت، ولا غلاظاً فتكسر الحلق، قدّر في السرد، اجعله على قدر الحاجة، هذه العملية الإتقانية في مسألة الصناعة اللازمة للجهاد، كانت من شأن داود -عليه السلام- ، وفي هذا درس عظيم لهذه الأمة .

الإتقان في صك العملات

أما قضية العملة، فإن المسلمين لما نظروا فيما يلزم للتداول في السلع، وعلموا أن الدنانير والدراهم هي الآليّة للتداول، وانتقال السلع من الناس بعضهم بعضاً، اهتموا بمسألة وزن الدنانير والدراهم، وأن يكون الوزن دقيقاً جداً، بالشعيرة، يعني عدد حبات الشعير المتوسط، عدد معين هو الوزن، وزن الدينار ووزن الدرهم، وكان سبب الاتجاه لعملية صك الدنانير والدراهم أصلاً تحدي من ملك الروم، بناءً على كتاب أُرسل إليه من عبد الملك بن مروان، وكتب له فيه { قل هو الله أحد } وذكر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكتب إليه ملك الروم : إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون.

يعني أما أن تكفوا عن دعوتنا وعن قضية إعلان التوحيد هذا ووضع هذه الإعلانات في الرسائل وإلا فإن الدنانير والدراهم التي تتداولونها والمصكوك عندنا لأن نحن الذين نصك العملة، سنضع عليها سب لنبيكم .

فعظم ذلك على عبد الملك، فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه، فقال: حرّم دنانيرهم ( امنع التداول في البلد بدنانير الروم)  واضرب للناس صكةً فيها ذكر الله تعالى. فضرب الدنانير والدراهم.

وكان الولاة يشددون في القضية، لأنه قد يقع فيها تزوير وغش وأن يخلط الذهب بغيره، ويكون هذا الخلط كثيراً، نسب في الغش وكذلك مسألة الدينار هل هو دينار صغير كبير، كيف يكون وزنه ؟

وكان بعض الولاة يشدد في دقة الوزن في الدراهم والدنانير،حتى أنه وجد مرة درهماً ينقص حبة، كما قلنا من حبات الشعير التي كانت توزن بها الدنانير، والدراهم بحبات الشعير. وهذا يوسف بن عمر والي العراق، امتحن يوماً الدراهم، فوجد درهم ينقص حبة،  فضرب كل صانع ألف سوط. وكانوا مائة صانع، فضرب في حبة مائة ألف سوط . الكامل ابن الأثير .

تضمين الشريعة  غير المتقن في الحرف والمهن:

جاءت الشريعة لقضية تضمين غير المتقن، لتعلمنا الإتقان حتى في المهن والحرف، ما هو فقط في المصنوعات والبناء، والأعمال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ)) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، وحسنه الألباني.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ لَمْ يَضْمَنْ، بِأَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحِذْقِ فِي صَنْعَتِهِ.

إذا كان ماهراً مشهوداً له خلاص هذا قضاء الله وقدره، وإما إذا لم يكن من أهل ذلك وحصل ضرر للمريض يضمن، إذا حصل الإهمال والتفريط ضمن.

قال ابن قدامة: وَلَا ضَمَانَ عَلَى حَجَّامٍ, وَلَا خَتَّانٍ, وَلَا مُتَطَبِّبٍ, إذَا عُرِفَ مِنْهُمْ حِذْقُ الصَّنْعَةِ, وَلَمْ تَجْنِ أَيْدِيهمْ [ يعني لم يتعدوا]. المغني .

ويفهم منه وجوب تضمين من لا يتقن عمله، يتحمل النتائج .

الإتقان في طرق وأساليب الجهاد

لقد كان الإتقان عند سلفنا وسيلة لإحكام الطرق والأساليب التي يكون بها الجهاد في سبيل الله ،

في سنة (708هـ) ورد الخبر بأن متملك قبرص اتفق مع جماعة من ملوك الفرنج على غزو دمياط، فجمع السلطان الأمراء وشاورهم، فاتفقوا على عمل جسر مادٍ من القاهرة إلى دمياط خوفاً من نزول الفرنج أيام النيل . [ إن النيل أيام فيضانه ، فيما سبق ،كان يطفو على الطرقات، حتى تنقطع السبل المعتادة ، فأراد السلطان أن يعمل طريقا مرتفعا لا يطفو عليه النيل ، ولا يصله الفيضان، ويمكّن الجيش أن يستعمله في حال نزول الفرنجة ] .

وندب لذلك الأمير جمال الدين أقوش الحسامي، فاستدعى المهندسين ورتب العمل.

واستقر الحال على ثلاثمائة جرافة، بستمائة رأس بقر، وثلاثين ألف رجل، .. فكان يركب دائماً لتفقد العمل واستحثاث الرجال… وما زال كذلك حتى أنجزه في أقل من شهر، وكان ابتداؤه من قليوب [ من ضواحي القاهرة ] وآخره بدمياط [ تقريباً 190كم تقريبا] ، يسير عليه الراكب يومين، وعرضه من أعلاه أربع قصبات [القصبة 6 أذرع ]، ومن أسفله ست قصبات، يمشي فيه ستة فرسان صفا واحداً. هذا عرضه، وعم النفع به، فإن النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقطع الطرقات ويمتنع الوصول إلى دمياط.

أما إتقان محمد الفاتح، في عملية مد الجسور وعبور ونقل السفن والسلاسل، والخطة العبقرية التي استعملها فواضح جداً الأثر هذا في الفتح المبين الذي تغيرت به خريطة أوروبا.

ضياع الإتقان اليوم أحدث تخلفاً عظيماً

ضياع الإتقان اليوم في مجتمعات المسلمين أحدث تخلفاً عظيماً، ليس في التدريس والمذاكرة، ولا التوظيف ولا العمل ولا الصناعة، بل أشياء كثيرة جداً صارت مغشوشة مهملة، صارت اليوم كثير من أعمال المسلمين فاقدة للإتقان حقيقة، ومن المؤسف أننا نتلفت اليوم شرقاً وغرباً نجد أن الغربيين قد أحكموا صناعتهم، فغزونا بها، والشرقيين من اليابان والصين وغيرهم قد أتقنوا صناعاتهم أيضاً فغزونا بها، صار الغزو لإتقانهم وتخلفنا، يعني اليابان ما عندها أصلاً خام (استانليستيل) اللازم لتصنيعه، يوجد في استراليا، لكن أكبر دولة تبيع هذه المادة في الشرق الأوسط، كيف ؟ لأنهم استفادوا من آليّة صناعة النحلة للعسل، لأن النحل يقع على العسل، فيمص الرحيق، ثم يطير، وجدوا أنه في أثناء عملية الطيران يقوم النحل بالتصنيع أثناء الطيران، ليضعه بعد ذلك في الخلايا، خلية النحل شهداً، فأثناء عملية النقل؛ نقل المادة رحيق الزهور إلى الخلية، تتم عملية التصنيع، فبنى اليابانيون بواخر ضخمة، عبارة عن مصانع متنقلة، تأخذ الخام من استراليا وتصنعه في الطريق وتبيعه في الشرق الأوسط إذا رست السفن جاهزاً في الموانئ .

أسباب عدم إتقان العمل

ما هي أسباب عدم إتقاننا للعمل ؟

الجهل بأهمية هذا ؟

الكسل والإهمال ؟

ما ذقنا لذة الإتقان ؟

تحقيق المكاسب السريعة

عدم الاهتمام بالمصلحة العامة للمسلمين

لا مبالاة، نجح أو ما نجح المهم نأخذ الأجرة، ما فيه حرص، الأمانة ضاعت أمانات، ما حققنا حديث ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) .

قلة الخبر؟ من الناحية الأخرى أيضاً، "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب".

قالوا ضربة بيد صانع ولا مائة متعلم.

الخبرة مطلوبة، قال ابن القيم : وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ إذَا تَعَاطَى عِلْمَ الطِّبِّ، أَوْ عَلِمَهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَقَدْ هَجَمَ بِجَهَالَةٍ عَلَى إتْلَافِ الْأَنْفُسِ وَأَقْدَمَ بِالتَّهَوُّرِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ فَيَكُونُ قَدْ غَرَّرَ بِالْعَلِيلِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

المتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدٍ لأنه يتولد من فعله التلف.

رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه .

من الأسباب أيضاً ضعف العزيمة، ونريد أشياء بسهولة.

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ       وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها       وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

من الأسباب نفاد الصبر بسرعة، ((مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ))

لأن الإتقان لا بد له من صبر، والذي يريد أن ينتهي من الشيء سريعاً، ويلفقه تلفيقاً، ويعمل بأي طريقة لن يأتي العمل متقناً، أحياناً نستعجل فلا نعطي الوقت الكافي للعمل، ولا تتحقق الجودة، لأننا مستعجلون.

والذي يريد التفوق لا بد له من مذاكرة ومراجعة ومطالعة ومدارسة وهذا يأخذ وقتاً، والذي يريد أن ينتج منتجاً متقناً لا بد له من وقت، ثم ينفق مال على هذا الإتقان، وبعض الناس بخيل يريدها رخيصة، وكذلك فإن ضعف الموارد المستخدمة وكذلك ضعف الأدوات اللازمة قد نأتي بأشياء بدائية أحياناً، فلا يحصل الإتقان، وبعضنا يريد كثرة إنتاج على حساب الإتقان، والإنسان له طاقة محدودة، وبالتالي فإن الإنتاج وإن كان كثيراً سيكون مهلهلاً، وقد قيل : علامة الضبط: الإقلال . قليل متقن خير من كثيرٍ سيء .

عوامل إتقان العمل

ما هي العوامل التي تجعلنا نتقن في الأعمال، وبعض الناس يحدثونك بقضية ويقولون أسباب تخلف المسلمين، ويتوجه كلامهم فقط إلى الأشياء الدنيوية، فيقولون انظروا إلى الغرب و انظروا إلى الشرق، والقضية -يا إخوان- هي أن عندنا تقصير حتى من جانب العبادة وقراءة القرآن والتربية والدعوة وإعداد الخطب والمحاضرات، فالإتقان قليل نادر في أشياء كثيرة، حتى في العبادات، ولذلك يلزم الإخلاص في العمل، وإذا كان الواحد ما يتقن إلا إذا صار المدير فوق رأسه، فأنت عندما تصلي لا بد أن تعلم أن الله فوقك، أن تعبد الله كأنك تراك، هذا سبب الإتقان الأول، وبالتالي فإن عملية الإتقان عند المسلم لا ترجع في الأصل إلى نظام رقابي، ولا إلى وجود كاميرات وعيون، وإنما داخله هو الذي يضبط له القضية .

 واعظ الله في قلب كل مسلم، لا بد أن تشعر بمراقبة الله لك، لا بد أن يكون هناك تنظيم دقيق وتخطيط سليم، لا بد أن نستفيد – ثالثاً – من تجارب الآخرين، فمثلا أحياناً تصير عندنا قضية ابتعاث عشوائي، وهذه المسألة تحتاج إن ترسل ناس معينين بصفات معينة لأخذ أشياء معينة، وليست عندنا، فيذهب ابن الثامنة عشرة، وقد اتصل علي بعضهم قبل يومين قال : أنا ذهبت إلى البلد الفلاني من جمهوريات روسيا، وتعرفت على بنت، وصار لي معها علاقة سنتين، ووقعت في الفواحش مراراً، والآن سأنتقل إلى استراليا ماذا أفعل ؟ لماذا؟ يذهب هكذا، يذهب تربته منخفضة، بل ولا تربية، والسن صغير، لا حصانة له، فلا زواج، ولا عقل يدفع به الشهوات، ولا علم يدفع به الشبهات… وماهي النتيجة؟ انتهك عرضاً فعل محرماً، ارتكب كبيرة، حمل مرضاً.. فهم سفراء الوباء. ماذا صنعتم؟ وما حصّلتم ؟ خراباً ويباباً… ولو أخذ ورقة في النهاية ورجع بها، لكن ما النتيجة؟ رقّ الدين وذهبت العقيدة..

دخل فتى صغير إلى محل تسوّق وجذب صندوق مشروبات غازية إلى أسفل كابينة الهاتف.. ووقف فوق الصندوق ليصل إلى أزرار الهاتف، و بدأ باتصال هاتفي.

انتبه صاحب المحل  إلى الموقف و بدأ بالاستماع إلى المحادثة التي أجراها هذا الفتى.

قال الفتى للطرف الآخر: سيدتي ، هل يمكنني العمل لديكِ في تهذيب عشب حديقتك؟

أجابت السيّدة عبر الهاتف: لديّ من يقوم بهذا العمل.

قال الفتى: سأقوم بالعمل بنصف الأجرة التي يأخذها هذا الشخص.

قالت : أنا راضية بعمل ذلك الشخص ولا أريد استبداله.

فألح وقال: سأنظف أيضا ممر المشاة و الرصيف أمام منزلك، و ستكون حديقتك أجمل حديقة في البلد.ومرة أخرى أجابته السيدة بالنفي، تبسّم الفتى و أقفل الهاتف، تقدم صاحب المحل- الذي كان يستمع إلى المحادثة – إلى الفتى و قال له: لقد أعجبتني همتك العالية، وأحترم هذه المعنويات الإيجابية فيك و أعرض عليك فرصة للعمل لدي في المحل.

أجاب الفتى الصغير: لا ، وشكراً لعرضك ، غير أني فقط كنت أتأكد من جودة عملي الذي أقوم به حاليا.. لأنني أنا الذي أعمل عند هذه السيدة التي كنت أتكلم معها .

التأني في العمل، التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وبعض الناس عندهم مذهب (الشلفقة)، وقضية (مشي حالك)، هذا كثير، لفلفلها كيف ما اتفق.

 قيل: إنه كان هناك نجار تقدم به العمر، وطلب من صاحب العمل أن يحيله إلى التقاعد ليعيش بقية عمره مع أولاده، فرفض صاحب العمل طلب النجار ورغّبه بزيادة مرتبه فأصر النجار على الخروج من العمل .

فقال له صاحب العمل: إن لي عندك رجاءً أخيراً وهو أن تبني منزلاً أخيراً من الخشب هذا، آخر عمل أكلفك به، ثم أحيلك إلى التقاعد.

فوافق النجار على مضض، وبدأ بالعمل، وحيث أن هذا آخر شيء، استعمل مواد رديئة، وأسرع دون الجودة، مع أنه كان مبدعًا ومتميزًا.

فانتهى من البناء بوقت قصير، وسلّم صاحب العمل مفاتيح المنزل الجديد، وقال: اسمح لي بالرحيل.

إلا أن صاحب العمل استوقفه وقال له:  هذا أصلاً هديتي لك، ونيتي أن يكون هذا المنزل على حسابي نظير سنوات عملك في المؤسسة فأرجو أن تقبله مني!

لابد أن يوجد لدينا اختيار الأشياء التي نحبها ونتقن فيها، فقد يحسن الإنسان في شيء ولا يحسن في آخر، ميوله وإمكانته في أشياء، واكتشاف هذه الميولات مهم جداً من الصغر، ثم الإنسان إذا احتسب الأجر في العملية، نحن مسلمون وبالتالي فإن قيام الواحد منا بالإتقان هو عبادة، هو يعلم أن الله يحب هذا.

التخصص من عوامل إتقان العمل

 قضية التخصص مثلاً التي تتبع مسألة الميول السابقة، هي قضية مهمة، كأن تكون في العلوم الشرعية، فهذا عنده ميول للقراءات، هذا عنده ميول للحديث، هذا عنده ميول للفقه، وهذا عنده ميول للتوحيد والعقيدة، وهكذا يبدع المبدعون، لا أن يصبح الأمر لأن القسم أقفل ومالك إلا القسم الثاني، فيدخل كثير من الطلاب أقساماً ليس لههم بها هواية، أو لمجرد أن المجموع ما جاء كذا،والدرجة ما جاءت كذا، وهذا أقفل، ما هناك استيعاب لميول الطلاب، ولا اكتشاف أصلاً.

 الصبر والمثابرة عملية لا بد منها، والتشجيع على الإتقان، هم يقولون الآن جائزة الجودة النوعية ستمنح هذه السنة، مسابقة المصانع ومسابقة المؤسسات ومسابقة الشركات، ومسابقة المدارس، ومسابقة الجامعات، أحسن كلية، وأحسن…، هذا كله من باب الحث على العملية، نظام التشجيع والتحفيز مهم، ثم لا بد أن يكون عندنا اقتباس من المتخصصين، أو المتفوقين، يقولون لك : تفوقت سويسرا في صناعة الساعات والشوكلاته، تفوقت ألمانيا في صناعة السيارات، تفوقت الصين في المصنوعات الخفيفة، تفوقت كذا..، طيب هذا شيء نحتاج إلى تعلم أسبابه، لماذا تفوقوا، ما هي الأسباب ؟ هل نستطيع أن نأخذ هذه الأسباب ونتبناها، ما هو تصورنا للمستقبل بغير إتقان وجودة، في عالم التنافس، هل يمكن أن نتفوق ؟ الجواب : لا .

قضية التجديد مهمة، كم ترك الأول للآخر، ما أضر بالناس في مسألة الأعمال كقول القائل : ما ترك الأول للآخر !! .

يقول في كتاب ( السلوك لمعرفة دول الملوك) :

كان للسلطان [الملك الناصر محمد بن سيف الدين قلاوون] عناية كبيرة ببلاد الجيزة، وعمل على كل بلد بها جسراً أو قنطرة وكانت أكثر بلادها تشرق [ يشتد جفافها ] لعلوها، فعمل جسر أم دينار في ارتفاع اثنتي عشرة قصبة، أقام العمال فيه مدة شهرين، فحبس الماء حتى رويت تلك الأراضي كلها، وعم النفع بها. وأحكم السلطان عامة أرض مصر قبليها وبحريها بالترع والجسور، حتى أتقن أمرها، وكان يركب بنفسه إليها ويتفقد أحوالها، وينظر في جسورها وترعها وقناطرها بنفسه، بحيث إنه لم يدع في أيامه موضعاً منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه.

وكان له سعد في جميع أعماله، فكان يقترح المنافع من قِبَلِه بعد أن كان يُزَهِّدُه فيما يأمر به حُذَّاق المهندسين، ويقول بعضهم: الذين جاؤوا مِنْ قَبلنا لو علموا أن هذا يصح لفعلوه، فلم يلتفت إلى قولهم، ويفعل ما بدا له من مصالح بلاده، فتأتيه أغراضه على ما يحب ويختار، فزاد في أيامه خراج مصر زيادة هائلة في سائر الأقاليم. (المحاصيل تضاعفت)

وكذلك فعل بالبلاد الشامية، حتى إن مدينة غزة هو الذي مصَّرَها وجعلها على هذه الهيئة، وكانت قبل كآحاد قرى البلاد الشامية.. ولم تكن قبل ذلك إلا ضيعة من ضياع الرملة .

 فبسبب قلاوون بعد الله صارت غزة في ذلك الوقت على الحالة التي عليها .

قضية تطوير النفس والبحث عن أسباب النجاح والإبداع في العمل، القراءة المستمرة في التخصص، متابعة للمستجدات، هذه مسائل مهمة، ونحن اليوم نكسل عن متابعات كثيرة، بمجرد من أن الواحد ينال درجة دكتوراه ينام، وكأن العلم انتهى عند هذا الحد، وأين البحث عن أفكار ومقترحات الناس .

المعتقد الغربي للجودة

الجودة ليس شرط أن تكون في أغلى شيء، قد تأتي الفكرة الجيدة رخيصة الثمن لكن جيدة المفعول.

عرض مصنع ألماني جائزة لأحسن فكرة في اكتشاف العلب الفارغة التي تخرج على مسار المنتجات قبل تعبئتها في الصناديق الكبيرة، فينتج مثلاً الصابون، ثم يُعلّب في كراتين صغيرة، علب صغيرة، ثم تملى بها الصناديق الكبيرة ثم تشحن، يحدث أحياناً أن العلبة تخرج فارغة، فاتت العلبة قبل أن تدخل فيها الصابونة، فقدموا فيها اقتراحات، ففاز بالجائزة شاب ( هم اشترطوا أرخص فكرة وتؤدي النتيجة والمفعول ) اقترح وضع مروحة في مكان معين على هذا المسار، فإذا جاءت العلبة الفارغة، ذهب بها الهواء، قد يتصور بعضهم أن مثل هذا يحتاج إلى كمبيوترات كثيرة وقياسات وأوزان وأشياء، ليست الجودة مقتصرة على المنتج، اليوم يا جماعة لما يتحدثوا في قضية الجودة، ينطلقون من قضية إرضاء العميل، وهذا هو المعتقد الغربي السيئ المادي البحت.

 لماذا الجودة ؟ لإرضاء العميل.

الإتقان في الإسلام والجودة مفهوم أصلي، أما عندهم لو كان ممكن تخدع العميل ويخرج من عندك مسروراً، بينما كانت العملية عملية غش وضحك عليه، الغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، مفهوم الجودة في الكتب الغربية، قضية إدارة الجودة، والجودة النوعية والجودة الشاملة، كله مبني على المفهوم المادي الغربي البحت في قضية خدمة أو إرضاء العميل، وليست قضية إرضاء الله -عز وجل- ، لا بد أن يكون عندنا في معايير الإتقان انتظار هذه المسألة، نُظم تطبيق الجودة والإتقان في المفهوم الغربي يظهر منها فعلاً أن ما فيه مانع من اللجوء إلى الكذب، لأجل الحصول في النهاية على هذا، والآن قد يحصل بعضهم على الآيزو (ISO)بخمسين ألف ريال، رشوة، وبعض الشكليات والورقيات، المسألة هي مسألة أمانة في الأصل في هذا الدين، كذلك بعض الناس يغرق في الجانب النظري جداً ومنشغل عن مسألة الإنتاج أصلاً.

ثمرات الإتقان

وثمرات الإتقان كبيرة، فإن الإنسان ينال رضا الله، وتحصل البركة والرفعة في الآخرة والدنيا وتتحقق مطالب الشريعة، وإذا كان الإتقان في طلب العلم والتعليم والحديث والقرآن والتجويد كيف ستكون قوة الأمة ؟ إذا كان الإتقان في الدعوة، إتقان أساليب الدعوة، بعد إتقان منهج الدعوة ، طرق الدعوة، وسائل الدعوة، التبليغ ، الداعية بناء الدعاة، التربية، بناء المربين، التربية أحكام التربية وإتقان التربية، زرع المفاهيم كيف تؤسس القواعد في النفوس، بأي شيء تبدأ، كيف تتعاهد هذا المفهوم، استعمال القصة تارة، والحدث، والموعظة، ضرب المثل، وهكذا استثمار الأحداث، هنالك إتقانات مهمة جداً اليوم نتحاج إليها في عالم الدعوة والتربية، كي يخرج دعاة على مستوى نشر هذا الدين، كي يخرج لنا مربون ينتجون لنا أجيالاً.. عندنا اليوم نقص وتدهور في مستوى الدعوة والتربية، فلذلك مقاومة هذا الباطل العام والكاسح من يتصدى له؟ ولماذا ؟ حتى تطبيق معايير الجودة في الدعوة والتربية مهم أيضاً، وليس بالطريقة النظرية أو المادية التي عند الغرب، نأخذ منهم ما نستفيد لكن عندنا ما نزيد عليه، كما تقدم من الأسباب .

وإن النجاح وليد الاستمرار والمثابرة، وإن الإتقان سبب البقاء، والقدرة على المنافسة للآخرين، ثم يُكسب الثقة في منهجك وطريقتك، وأنت إذا كنت متقناً في طريقة العرض كسبت الزبائن بالفكرة، في عالم تتصارع فيه المناهج والأطروحات، ويزاحم فيه المبتدعة والمشركين أهل التوحيد، ويهجم فيه أهل الباطل والكفر على أهل الحق والإسلام، فيحتاج أهل الإسلام اليوم إلى الإتقان في المواجهة، لأن طريقة العرض والتقديم والإعلام والإعلان وتعبئة هذا المنتج وكيف نغزو به نفوس الآخرين، فيدخل فيها برداً وسلاماً، المسألة تحتاج إلى تعاون ومثابرة، لا بد أن ننشئ مدارس عملية في هذا الجانب، سواء كانت بمنشئات أو بأشخاص وخبراء، لأن القضية تختصر الوقت فإن عدم الإتقان يضيع أوقات كثيرة، لا بد من التدريب، ولا بد من التطوير، ولا بد من الابتعاد عن التسيب والإهمال واللامبالاة، وقضية النوم والكسل، في بعض شعوب العالم كاليابانيين عندهم قضية الراحة عيب، هذا شعب يجيد الادخار، ويدخر من 20  – 40% من دخله، وعنده الإتقان عنوان، والنظرية أنه لا يوجد شخصان يمتازان بنفس الدرجة من التفكير والإبداع، إلا ماتوا، هم يقولون يموت الإبداع إذا كنا نتشابه في التفكير والابتكار، ولذلك لا بد أن يوجد اختلاف بيننا باستمرارية التقدم، فيستغلون الفروق الفردية والجماعية، وإذا كان الإتقان طريق التفوق والقوة، { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }(القصص: من الآية26). لا بد أن نحافظ على هذا، ليست المسألة اليوم مسألة حسب ونسب وشرف، وهالة إعلامية وشهرة، لا ، القضية هي  قضية جودة حقيقية داخلية، { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } (يوسف:55). صفتان للإتقان والإنتاج وتحقيق المطلوب والوصول إلى الهدف، {حفيظٌ عليم}، لم يذكر يوسف في هذا أنه ابن نبي،  وأنه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، بل ذكر الصفات المناسبة للمهمة .

فتعلمِ العلم الذي تختارُه       لتجيدَه فالسَبْقُ للمتفرِّد

وإذا أردتَ كرامةً من مهنة       أَتقنْ فإن أتقنتها تتسوَّد

الإتقان سبب الرفعة، قال الذهبي : لا ريب أن ابن لَهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معا، كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة، والأوزاعي عالم الشام، ومعمر عالم اليمن، وشعبة والثوري عالما العراق، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان، ولكنَّ ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير، فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم. فرواية ابن لهيعة ليست مثل روايات اللليث ومالك والأوزاعي وشعبة، إبراهيم بن طهمان.

مرة أخرى، إن مفاسد وأضرار عدم الإتقان تجعلنا اليوم نعلم علماً يقيناً أنه لا بد أن نهتم بهذه القضية، والعمل الغير المتقن وجوده كعدمه، وأحياناً عدم وجوده أحسن .

كانت العرب تنفي العمل كله إذا انتفى التجويد والإتقان، فتقول للصانع الذي ما أحكم صنعته: لم تعمل شيئاً، وتقول للسامر والمتكلم الذي ما أحسن قوله: لم تقل شيئاً. إن لم يكن هناك إتقان تُفقد الثقة، إذا الداعية ما أتقن يفقد المدعوين، إذا المربي ما أتقن يفقد المتربين.

 ثم انعدام الإتقان ضرب من ضروب الغش، وسبب عظيم للتخلف، انظر اليوم إلى الخسائر الحادثة بسبب عدم الإتقان، وفايات لإهمال طبي،نسيت فوطة، مشرط، زادت جرعة التخدير والنتيجة الله مات. العامل في المجال الصحي مؤتمن على أرواح الناس، الصيدلي مؤتمن في قضية الدواء، المهندس مؤتمن في قضية البناء، كم مبنى سقط ؟ وعمارة انهارت وأرواح ذهبت وأموال وخسائر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (لأنفال:27) .

تصدعات في جدران، في جسور، تؤدي إلى انهيارات وخسائر في الآليات والأرواح، سدود أغرقت بلدان.

وقضية الجودة ليست كما قلنا عندنا نحن المسلمين في المسألة الدنيوية المادية فقط، فالخطيب هل يتقن إعداد الخطبة؟ لا أنه وهو ذاهب للمسجد ربما يقول لصاحبه : ما هو رأيك نخطب عن ماذا؟ هل عن غزوة بدر ؟

فإنك يا أخي إذا لم تحترم عقول المصلين عندك وليس عندك حسن إعداد، لماذا تستولي على المنبر، أفسح المجال لغيرك.

 الإتقان في الحياة الزوجية مهم جداً في أحكام بناء الأسرة، الإتقان في العلاقات الجماعية يديم لك الصداقات والأخوة والعلاقات مع أقاربك وأصدقائك وإخوانك في الله .

الإتقان إذاً أيها الأخوة له أبعاد كثيرة، ما هي القضية فقط قضية دنيوية، ليست القضية فقط قضية شرعية بمعنى أعمال الآخرة فقط، العبادات فقط، الشعائر التعبدية فقط.

لا بد من مراجعة العملية، عملية الإتقان هذه والإحسان وإن الله كتبه على كل شيء تجعلنا نراجع أنفسنا ونصر على أن نغرس هذا المبدأ في الصغار ونتعود عليه ونُصر عليه كباراً حتى يرضى الله عنا.

نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا جميعاً الإخلاص والاستقامة، وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يجعلنا من المحسنين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .