قف مع الفاروق وقفة

قف مع الفاروق وقفة

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

·   قف مع الفاروق وقفه، وخذ من التاريخ عبرة، واستنشق من هواء سيرته ولو ذرة، وتأس به في حياتك ولو مرة؛ لأنه الفاروق وما أدراك ما الفاروق؟ عمر وما أدراك ما عمر؟

·    فاحت بذكره الأخبار، وأشادت بعدله الأمصار، ونعمت بحكمه الأقطار، والتفتت إليه الأنظار، وفزع من هيبته الكفار، وسار الخير بذكره مسير الشمس في رابعة النهار.

·   ماذا أقول عن الخليفة الثاني، وماذا أخط عن الفاروق، وماذا أكتب عن أبي حفص، وماذا أسطر عن فاتح الفتوح، وبما أصف أمير المؤمنين؟!

·   لن أتحدث عن شاعرٍ هدار، أو خطيبٍ ثرثار، أو متكلمٍ موار، أو فيلسوفٍ هائم، أو كاتبٍ متصنع، أو تاجرٍ منعم، بل حديثي عن خليفة راشد، وإمام عادل، ومجاهد مقدام، وبطل صنديد، وعبقريٍ ماهر.

·   والسر في الحديث عنه أن الأمة تمر في مصائب ونكبات، وعقبات وأزمات، ولذا فهي بحاجة إلى عدل كعدل عمر، وشجاعةٍ كشجاعة عمر، وإيمان كإيمان عمر، وصدق كصدق عمر، وعزّةٍ كعزةِ عمر – رضي الله عنه -.

·   عمر: لا يشرفه عم ولا خال، وإنما يتسامى للعُلا، رجل ماضي العزيمة لا تثنيه الأهوال، عالي الهمة لا يقنع بالدون، ولا يرضى إلا بمعالي الأمور:

له همةٌ لو أن للشمس عشرها                  لما غربت حتى يجيء لها الغرب

·   عمر – رضي الله عنه -: هو الذي أعدَّ العدة، وجهز الراحلة، وأرسل الجيش، ونادى يا خيل الله أركبي، فتح العراق، وأذربيجان وفارس، والشام ومصر، وقُتِلَ – رضي الله عنه – وخيله وجنده يصولون ويجولون ميادين المعارك في بلاد "الريّ" فما مات إلا بعد أن فتحوا عامتها، وهو الذي حضر – رضي الله عنه – فتح بيت المقدس، ووسع مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفرشه بالحصى، وأمر أن يجاء بالحصى من العقيق لأنه وادٍ مبارك.

·   تولى الخلافة، واستلم الحكم، ونشر العدل، ونصر المظلوم، وأرهب الخصم، كان يأخذ الدنيا في يوم ويسلمها للفقراء في يوم، تأتيه القوافل محملةً بالغنائم فلا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال؛حتى يُطعم بها الجائع، ويكسو بها العاري، ويساعد بها المحتاج، ويعاون بها الضعيف، ويقسمها على الفقراء، ويوزعها على المساكين.

ولنا مع مواقفه وقفة:

·   كان إذا أقبل الليل، وهدأت العيون؛ أخذ درَّته، وجاب سكك المدينة، يساعد الضعيف، ويعطي الفقير، ويؤدب المجرم، وكان يأتي عجوزاً عمياء ينظف بيتها، ويقوم في خدمتها متخفياً من الناس، فراقبه طلحة بن عبيد الله – رضي الله عنه – فذهب إليها وقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة عن نفسه: "ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع".

·   كان يعيش بقلبه مع جيشه على أرض القادسية، وفي ذات يوم خرج يتطلع أخبار الجيش من الرسل والمارة والمسافرين من أرض المعركة؛ فإذا هو براكب يلوح من بعيد، فاستقبله عمر فسأله عن أخبار جيش المسلمين، فقال له الرجل: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجل يحدثه وهو لا يعرف عمر، وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال: لا حرج عليك يا أخي، ما ضرَّ الناس أن لا يعرفوا عمر؟

·   يأتي الهرمزان مستشار كسرى لابساً تاجاً من ذهب وزبرجد، وعليه الحرير، فيدخل المدينة فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا، فأروه بيتاً من طين، وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال: أين حرسه؟ قالوا: ليس له حرس، طرق الهرمزان الباب فخرج ولد الخليفة، قال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد، أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوه، بحثوا عنه فوجدوه نائماً تحت شجرة، وقد وضع درّته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع، وقد توسد ذراعه، في أنعم نومة عرفها الملوك، تعجب الهرمزان مما رأى، هذا الذي فتح الدنيا، وملك الممالك والسلاطين، ينام بهذه الهيئة، تحت شجرة، وقال كلمته المشهورة: "حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت يا عمر"

وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً                  بين الرعية عقلاً وهو راعيـها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً                 ببردة كاد طول العهد يبليـها

فقال قولة حقٍ أصبــحت مثـلاً                   وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهمـــو                  فنـمت نوم قرير العين هانيها

·   هو الذي يعدو ويهرول وراء بعير أفلت, فيلقاه علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فيسأله: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ فيجيب عمر: بعير من إبل الصدقة أطلبه، فقال له علي: لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك، فيجيبه عمر: "والذي بعث محمداً بالحق لو أن عنزاً ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة"1.

أيـا عمر الفاروق هل لك عـودة           فإن جيــوش الروم تنهى وتأمر

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم            وجيشك في حطين صلوا وكبروا

نســاء فلسطين تكحلن بالأسى             وفي بيــت لحم قاصرات وقصر

وليمـون يافا يابس في حقـوله               وهل شجر في قبضة الظلم يُثمر؟

·   هو الذي مثَّل العدل في أعلى وأبهى وأنصع صورة عرفها المظلوم والضعيف والمضطهد، فكان دائم الرقابة لله في نفسه وأعماله ورعيته، بل إنه ليشعر بوطأة المسؤولية عليه حتى تجاه البهائم العجماء فيقول: "والله لو أن بغلة عثرت بشط الفرات لكنت مسؤولاً عنها أمام الله، لماذا لم أعبد لها الطريق".

وكان إذا بعث عاملاً كتب ماله، حتى يحاسبه إذا ما استعفاه أو عزله عن ثروته وأمواله، وكان يدقق الاختيار لمن يتولون أمور الرعية، أو يتعرضون لحوائج المسلمين، ويعد نفسه شريكاً لهم في أفعالهم.

·   تأكد له اعتداء ابن والي مصر على الغلام القبطي، فأخذ عمر بن الخطاب عصاه وأعطاها للغلام القبطي قائلاً له: "اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدِرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطان أبيه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني، ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"؟.

·   وكما اشتهر – رضي الله عنه – بالحزم والشدة فقد اشتهر بالرأفة والرحمة، والعطف واللين، كما يظهر ذلك من موقفه مع الشاعر "الحطيئه" سليط اللسان، الذي سجنه، فلما سجنه عمر – رضي الله عنه – قال قصيدة يستعطف بها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أبكت عمر، وأخرجت أدمعه على خديه، فأخرجه من السجن بعدما أخذ عليه العهد ألا يهجو أحداً من المسلمين، وأعطاه مالاً مقابل أعراض المسلمين، يقول الحطيئة:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ                 زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسيهم في قعر مظلمة                فاغفر عليك سلام الله يا عمـر2

هذه بعض المواقف التي سطرها لنا عمر – رضي الله عنه – في جبين التاريخ، وحفظها لمن جاء بعده من الأمراء والزعماء في ذاكرة الزمن، وخطها على صفحة الكون أحببنا ذكرها للعظة والاعتبار، والذكرى والادكار.

فصلى الله على نبينا من ربى هذا الجيل الفريد، وعلى آله وصحبه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 أسد الغابة (2/321).

2 غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/306).