في كل سنبلة مائة حبة

في كل سنبلة مائة حبة

الحمد لله الكريم المنان، الملك القدوس السلام، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فقد ضرب الله في القرآن أمثلة كثيرة، بأساليب مختلفة، وبصور متعددة؛ ليكون لها الأثر البالغ في النفوس؛ وليتم مقارنة المعنى بالمحسوس، حتى يكون قريب الفهم إلى عقل الإنسان.

ومن هذه الأمثلة التي ضربها لنا في القرآن ما جاء في قوله تبارك وتعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (سورة البقرة:261).

فيمن نزلت هذه الآية؟

روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنهما -، وذلك أنَّ رسول الله  لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبد الرحمن  بأربعة آلاف، فقال: يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي، فقال رسول الله  : بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت1، وقال عثمان: يا رسول الله عليَّ جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما. شرح الآية:

في هذه الآية ضرب الله لنا مثلاً: “لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله، وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فقال: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ التي اكتسبوها من طرق مشروعة، وأنفقوها في طرق مشروعة، ومن ذلك إنفاقها في الجهاد في سبيل الله، وتجهيز المجاهدين في سبيله، ولذلك قال: فِي سَبِيلِ اللّهِ، وقد تنوعت عبارات السلف في بيان معنى قوله: فِي سَبِيلِ اللّهِ فقال سعيد بن جبير: “يعني في طاعة الله”، وقال مكحول: “يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل، وإعداد السلاح وغير ذلك”، وقال ابن عباس: “الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف”2، والعلم عند الله أن الآية تعم جميع الإنفاق في وجوه الخير، ومن أعظمها الجهاد في سبيل الله.

قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ أي كمثل حبة بذرها إنسان، فأنبتت سبع سنابل فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ فتكون الجميع سبعمائة؛ فالحسنة إذاً في الإنفاق في سبيل الله تكون بسبعمائة؛ وهذا ليس حدّاً، بل قد يضاعف الله ذلك إلى أضعاف كثيرة، لا تعد ولا تحصى.

وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف فعن عياض بن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة  نعوده من شكوى أصابته بجنبه، وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه قلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجر قال أبو عبيدة: ما بت بأجر وكان مقبلاً بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه، وقال: ألا تسألوني عما قلت؟ قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال سمعت رسول الله  يقول: من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضاً، أو أماط أذى؛ فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله ​​​​​​​ ببلاء في جسده فهو له حطة3.

وعن أبي مسعود الأنصاري  قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله  : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة4.

وعن أبي سعيد الخدري  أنه سمع رسول الله  يقول: إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها 5. وعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف 6.

وعن أبي هريرة  أيضاً قال: قال رسول الله  : إن ربكم يقول: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي وأنا أجزي به، الصوم جُنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم 7.

وقوله: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ هذه المضاعفة لِمَنْ يَشَاءُ أي بحسب حال المنفق، وإخلاصه، وصدقه، وبحسب حال النفقة وحلها، ونفعها ووقوعها موقعها، ويحتمل أن يكون وَاللَّهُ يُضَاعِفُ أكثر من هذه المضاعفة لمن يشاء فيعطيهم أجرهم بغير حساب وَاللَّهُ وَاسِعٌ الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل، ولا يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله – تعالى – لا يتعاظمه شيء، ولا ينقصه العطاء على كثرته، ومع هذا فهو عَلِيمٌ بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته8.

وقد شبه الله في هذه الآية نفقة المنفق في سبيله: “بمن بذر بذراً فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل؛ اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب حال المنفق، وإيمانه، وإخلاصه، وإحسانه، ونفع نفقته وقدرها، ووقوعها موقعها، فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص، والتثبيت عند النفقة، وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع، ولا هلع، ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق، ومصارفه بمواقعه، وبحسب طيب المنفق وزكاته.

وتحت هذا المثل من الفقه أنه – سبحانه – شبه الإنفاق بالبذر؛ فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية، فمغلة بحسب بذره، وطيب أرضه، وتعاهد البذر بالسقي، ونفي الدغل والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعت هذه الأمور، ولم تحرق الزرع نار، ولا لحقته جائحة؛ جاء أمثال الجبال”9 والله الموفق.

بعض الفوائد المستفادة من الآية:

1.  في هذه الآية إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله ​​​​​​​ لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة10.

2.  في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال11.

3.  فضيلة الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.

4. الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل، وموافقة الشرع في ذلك؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن يقصدوا بذلك وجه الله ​​​​​​​ .

5. وجه الشبه في قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب والروح.

6. أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عُومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة بل أزيد؛ لقوله تعالى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم.

7.  أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة وآخر من أهل السنة؛ قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى عليَّ بالردى؛ أحسن إلي أم أساء؟ يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى؛ يكون إساءة من الله إليه، فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء؛ وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله  يؤتي فضله من يشاء.

8. الحث والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له12. وغير ذلك من الفوائد المستفادة من هذه الآية، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 ذكر هذا الحديث القرطبي في تفسيره، وابن أبي حاتم في التفسير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: “رواه البزار من طريقتين: إحداهما متصلة عن أبي هريرة  ، والأخرى عن أبي سلمة  مرسلة، قال: ولم نسمع أحداً أسنده من حديث عمر بن أبي سلمة إلا طالوت بن عَبّاد، وفية عمر بن أبي سلمة وثقة العجلي وأبو حيثمة وابن حبان وضعفه شعبة وغيره، وبقية رجالهما ثقات”.

2 تفسير القرآن العظيم (1 /423) لابن كثير.

3 رواه أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: “إسناده حسن”.

4 رواه مسلم.

5 رواه البخاري.

6 رواه البخاري.

7 رواه الترمذي، وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (978).

8 تيسير الكريم الرحمن، صـ(112) لابن سعدي.

9 إعلام الموقعين (1 /184) الناشر: دار الجيل – بيروت (1973هـ).

10 تفسير ابن كثير (1 /423).

11 تفسير القرطبي (3 /287).

12 تفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.