التسول وإعطاء السائل في المسجد

التسول وإعطاء السائل في المسجد

التسول وإعطاء السائل في المسجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعدَّه عبادة، ونهى عن سؤال الناس وتكففهم؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده, وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده)1.

ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سؤال الناس من غير حاجةٍ ماسةٍ؛ لما فيه من إذلال النفس والرغبة في الدنيا والتكثر منها، وأخبر أن من اعتاد السؤال يأتي يوم القيامة وليس في وجهه شيء من اللحم جزاء له لقلة حيائه من سؤال الناس في الدنيا, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)2. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره, خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه)3. وقال -عليه الصلاة والسلام-: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء أو خيرا أوسع من الصبر)4.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا؛ فليستقل أو ليستكثر)5.

والحديث في هذه السطور سيكون عن حكم السؤال والتسول في المسجد..

ذهب أهل العلم في حكم السؤال في المسجد للمحتاج مذاهب وأقوال هي:

القول الأول: حرام، وقد ذهب إلى ذلك المالكية ومن وافقهم, والقول الثاني: مكروه، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية ومن وافقهم, والقول الثالث: فرَّق قوم بين السؤال والإعطاء، فكرهوا السؤال وأجازوا الإعطاء.

وأقوى ما استدل به المحرِّمون لذلك نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن إنشاد الضوال في المسجد، الذي هو أولى من السؤال، وقوله: (إن المسـاجد لم تبنَ لهذا)6, بل والدعـاء عليه أن لا يرد الله عليه ضالته.

قال النووي في شرح مسلم: “في هذا الحديث النهي عن إنشاد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه في البيع، والشـراء، والإجارة، ونحوها، وكراهة رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره”7.

واستدل القائلون بكراهته كراهة تنزيه -وهم الشافعية- بحديث عبد الله بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- قال: “قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟), فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل، فوجدتُ كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه… الحديث”8.  

قال ابن الحاج المالكي وهو يعدد فيما ينبغي أن تنزه منه المساجد: “وينبغي أن يمنع من يسأل في المسجد، لما ورد في الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (من سأل في المسجد فاحرموه)9، ومن كتاب “القوت” قال ابن مسعود: “إذا سأل الرجلُ الرجلَ في المسجد فقد استحق أن لا يُعطى، وإذا سأل على القرآن فلا تعطوه”10.

وقال السيوطي -وهو من القائلين بكراهة السؤال في المسجد من غير تحريم، ومن المفرقين بين السؤال والإعطاء-: “السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه، وإعطاء السائل فيه قربة يثاب عليها، وليس بمكروه فضلاً عن أن يكون حراماً”11.

قال الألباني: “ما وقع في المدخل لابن الحاج من حديث: (من سأل في المساجد فاحرموه) فإنه لا أصل له, وإنما قلنا بالكراهة أخذاً من حديث النهي عن نشد الضالة في المسجد, ويدل على جواز التصدق في المسجد الحديث الآتي أيضاً وهو مما فات السيوطي فلم يورده في رسالته بل ولا أشار إليه وهو: “ودخل رجل المسجد في هيئة بذة, فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطرحوا له ثياباً فطرحوا, فأمر له منها بثوبين, ثم حث على الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به” وفي لفظ: فانتهره, وقال:(خذ ثوبك)12. انتهى كلام الألباني13.

قال النووي في شرح المهذب في باب الغسل: “لا بأس أن يعطى السائل في المسجد شيئاً لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر.. إلى أن قال: “والحديث الذي أورده فيه دليل للأمرين معاً، أن الصدقة عليه ليست مكروهة، وأن السؤال في المسجد ليس بمحرم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- اطلع على ذلك بإخبار الصديق، ولم ينكره، ولو كان حراماً لم يقر عليه، بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال، وبذلك يعرف أن النهي عن السؤال في المسجد إن ثبت محمول على الكراهة والتنزيه، وهذا صارف له عن الحرمة.. إلى أن قال: قلت: ومن أخذ تحريمه من كونه مؤذياً للمصلين برفع الصوت، فأكثر ما ينهض ذلك دليلاً على الكراهة.

وقد نص النووي في شرح المهذب على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة في المسجد، ولم يحكم عليه بالتحريم، وكذا رفع الصوت بالقراءة والذكر إذا آذى المصلين والنيام، نصوا على كراهته لا تحريمه.

والحكم بالتحريم يحتاج إلى دليل واضح صحيح الإسناد غير معارض، ثم إلى نص من أحد أئمة المذاهب، وكل من الأمرين لا سبيل إليه، ثم إن أبا داود والبيهقي استدلا بالحديث المذكور على جواز المسألة في المسجد، فإنهما قالا في سننهما: “باب المسألة في المسجد”، وأوردا فيه الحديث المذكور، وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الزكاة، وقال: صحيح على شرط مسلم.

ثم علق على ما قاله ابن الحاج في المدخل قائلاً: وما وقع في المدخل لابن الحاج من حديث: “من سأل في المسجد فاحرموه”، فإنه لا أصله له، وإنما قلنا بالكراهة أخذاً من حديث النهي عن إنشاد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه في البيع، والشراء، والإجارة، ونحوها، وكراهة رفع الصوت في المسجد بالعلم”.

ولا شك أن عدداً من السؤَّال محتاجون ويستحقون العون والمساعدة، ولكن لا ينبغي أن يتم ذلك على حساب حرمة المسجد والتشويش على المصلين، والتالين، والذاكرين.

ففي جلوسهم عند الأبواب وإقناع الإمام بحاجة أحدهم كفاية لهم، وصيانة لبيوت الله من الصياح والتشويش”14.

“وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه المسألة فأجاب رحمه الله بما نصه: أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة, فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحداً بتخطيه رقاب الناس ولا بغير تخطيه, ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله, ولم يجهر جهراً يضر الناس مثل أن يسأل الخطيب والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز والله أعلم15.

إن كثرة السؤَّال والمحتاجين يحتم على ولاة الأمر السعي وبشتى الطرق لرفع المعاناة عن الفقراء والمساكين، وإنشاء ملاجئ للعجزة، ومحاربة عادة التسول سيما في المساجد، فإنها من العادات السيئة.

واللهَ أسألُ أن يوفق المسلمين للتكافل فيما بينهم، وأن يواسي بعضُهم بعضاً، وأن يكونوا كما وصفهم رسولهم صلى الله عليه وسلم، كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وأن لا يغفلوا عن المحتاجين، خاصة الأقارب، والجيران، والأرامل، والأيتام، من ذوي الأرحام وغيرهم.

والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحابته ومن اتبعهم من المحسنين, والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (1930) (ج 7 / ص 235).

2 رواه البخاري برقم (1381) (ج 5 / ص 325) ومسلم برقم (1724) (ج 5 / ص 246)واللفظ البخاري.

3 رواه البخاري برقم(1377) (ج 5 / ص 319) ومسلم برقم (1727) (ج 5 / ص 249) واللفظ للبخاري.

4 رواه البخاري برقم (5989) (ج 20 / ص 108) ومسلم (1745) (ج 5 / ص 274).

5 رواه مسلم برقم (1726) (ج 5 / ص 248).

6 رواه مسلم برقم (880) (ج 3 / ص 195).

7 شرح النووي على مسلم (ج 2 / ص 333).

8 رواه أبو داود برقم (1422) (ج 4 / ص 483) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة برقم (88).

9 لا أصل له كما سيظهر من كلام الألباني لاحقاً.

10 قوت القلوب لـ( أبي طالب المكي) (ج 1 / ص 95).

11 ذكر هذا في كتابه بذل العسجد لسؤال المسجد كما قال مؤلف كتاب فتاوى الأزهر  (ج 9 / ص 145).

12 رواه أبو داود برقم (1426)  (ج 4 / ص 490) والنسائي (1391) (ج 5 / ص 263) وحسنه الألباني برقم (1675) في تحقيق سنن أبي داود (ج 4 / ص 175).

13 الثمر المستطاب للألباني (ج 1 / ص 830).:

14 نقلاً من موقع الدين النصيحة.

15 الثمر المستطاب لـ(الألباني) (ص829).