الفقه الاجتماعي عند الإمام

الفقه الاجتماعي عند الإمام

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.. أما بعد:

يتجه المسلمون إلى المسجد ليروا المثل العليا في الأخلاق والقيم؛ وليجدوا من يقدِّرهم، ومن يراعي مشاعرهم؛ لأنهم يعلمون أن الله – عز وجل – قد ربى أهل المساجد على أحسن الأخلاق وأفضلها، رباهم على الكلمة الطيبة لكي لا يجرح بعضهم بعضاً، فأمرهم بأحسن القول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}1، وحذَّرهم من السخرية والاستهزاء بالآخرين، وظلمهم والتعدي عليهم يقول – تعالى –: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}2.

والإسلام يهذب النفوس، ويعلمها كيف تعايش المجتمع، وكيف تكون مراعاة الشعور، وكل ذلك موجود في المسجد وبخاصة عند الإمام، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – القدوة في ذلك، فقد كان يراعي الناس، ويقدر اهتماماتهم فهذه – على سبيل المثال – امرأة يبكي طفلها وهي في الصلاة؛ فما الذي فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – لأجلها؟

عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها؛ فأسمع بكاء الصبي فأخفف؛ من شدة وجد أمه به))3، وعنه أيضاً أنه قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة"4، فانظر إلى رحمته  ورفقه بالمصلين، وانظر إليه وهو يشعر بمشاعرهم، ويحس بإحساسهم قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: "الوجد يطلق على الحزن، وعلى الحب أيضاً، وكلاهما سائغ هنا، والحزن أظهر: أي من حزنها واشتغال قلبها به، وفيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم – وإن كان يسيراً – من غير ضرورة"5، ويقول صاحب فيض القدير: "قوله في بعض الطرق لمسلم: كان يسمع بكاء الطفل مع أمه، وفي معناه ما لو كان الصبي في بيت أمه، وأمه في المسجد في الصلاة، وهذا من كريم عوائده، ومحاسن أخلاقه، وشفقته على أمته {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}6، وقد خصه الله من صفة الرحمة بأتمها وأعمها، وذِكْرُ الأم غالبِيٌ، فإنه كان أرحم الناس بالصبيان، فمثلها من قام مقامها كحاضنته أو أبيه مثلاً، والقصد به بيان الرفق بالمقتدين، وفيه إيذان بفرط رحمة المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، فإنه قوي عليه باعث الرحمة لأمه وغلبه"7، وقال أيضاً: "وفيه أن الإمام إذا أحس بداخل وهو في ركوعه أو تشهده الأخير؛ له انتظار لحوقه راكعاً؛ ليدرك الركعة، أو قاعداً ليدرك الجماعة؛ لأنه إذا جاز له أن يقصر صلاته لحاجة غيره في أمر دنيوي؛ فللعبادة أولى، وفيه جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد، وإدخال الصبيان وإن كان الأولى تنزيهه عنه، والرفق بالمأموم والأتباع، وإيثار تخفيف الصلاة لأمر حدث، وإن كان الأفضل في تلك الصلاة التطويل كالصبح"8، وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن التطويل الذي لا يستطيعه المأمومون، فيراعي الإمام ظروفهم الصحية، وأشغالهم الدنيوية فعن جابر بن عبد الله الأنصاري – رضي الله عنه – قال: "أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذاً يصلي، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذٍ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذاً نال منه، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فشكا إليه معاذاً، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ أفتان أنت، أو أفاتن – ثلاث مراراً -، فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة))9، وعن أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه – قال:  "جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح؛ من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – غضب في موعظةٍ قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: ((يا أيها الناس: إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة))10، فلا بد أن يكون الإمام فقيهاً بأحوال المأمومين، فقد يبغِّض لهم صلاة الجماعة فيحصل بذلك شر عظيم من ترك الجماعات، وهجر المساجد يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "أيها الناس لا تبغِّضوا الله إلى عباده، فقال قائل منهم: وكيف ذلك؟ قال: يكون الرجل إماماً للناس يصلي بهم فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه، أو يجلس قاصاً فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه"11، وقال ابن حجر – رضي الله عنه -: "ومعنى الفتنة هاهنا: أن التطويل يكون سبباً لخروجهم من الصلاة، وللتكره للصلاة في الجماعة"12.

وما ذكرت ما هي إلا أمثلة على الفقه الاجتماعي الذي كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه كل إمام مسجد، فينظر فيما ينفر الناس عن المسجد فيتقيه، وينظر في أحوال المأمومين فيتأقلم مع ظروفهم، محبباً لهم بيوت الله – تعالى -.

ومن الحس الاجتماعي المطلوب السؤال عن الغائب من المصلين، ومؤانسة المكلوم، ومساعدة المحتاج، فالأمة تنتظر منكم كل خير، فكونوا خيراً مما يظنون.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة الإسراء (53).

2 سورة الحجرات (11).

3  البخاري (669)، مسلم (723).

4  مسلم (722).

5 النووي (4/187).

6 سورة الأحزاب (43).

7 فيض القدير شرح الجامع الصغير لعبد الرؤوف المناوي (3/17).

8 نفس المصدر السابق.

9 البخاري (664).

10 البخاري (661)، ومسلم (713).

11 التمهيد (19/12).

12 فتح الباري (2/195).