هذا هو الشعر

هذا هو الشعر

 

الحمد لله الذي كرم الإنسان بفصاحة اللسان، والإعراب عن مكنون الجنان بأوضح تبيان، علمه البيان، وأشرف ببعض خلقه على الغيد الحسان من كلمات ومعان، فإذا اللفظ مع المعنى زوجان، قد أقاما في سوق البلاغة حفلاً لقِران، فتم العرس وبارك ربي للعرسان!!

والصلاة والسلام على أس الفصاحة وأستاذ البيان، من جمع الله له دولة الكلام في لفْظَة، وسندس الألفاظ في حُلّة، وشُعَب التأثير في إشارة، حتى شهد هو بما خَبِر ودرا، شهادة لا يعتريها الشك ولا ينازعها المِرا، فقال مختصِرا: (( إن من البيان سحراً، وإن من الشعر حِكَماً))1، فصلى الله عليه وسلم ما لمع سحر البيان وسرى، وما نافح عن الحق شاعر وانبرى، وعلى آله وصحبه ومن على سبيلهم اقتفى، أما بعد:

فأهلاً وسهلاً بكم إخواننا في هذه الجلسة الأدبية الماتعة، التي نروح فيها عن أنفسنا، ونشحذ فيها هممنا، إذ كان هذا من أساليب السلف مع أنفسهم حين تمل من كثرة المسائل العلمية، ومتابعة الحفظ والمراجعة والمذاكرة؛ ولهذا "قال علي – رضي الله عنه -: أجموا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان، وذكر ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال: كان بعض العلماء يقول: هاتوا من أحاديثكم، هاتوا من أشعاركم، فإن الأذن مجاجة، والنفس حمضة… قال ابن وهب: وحدثنا يحيى بن أيوب عن عقيل عن ابن شهاب أنه كان يقول: روحوا القلوب ساعة وساعة"2.

ولا يخفاكم الثورة الأدبية المنفجرة في هذا العصر، والتي يفتقر كثير منها – وللأسف – إلى الأدب! بل يفتقر كثير منها كذلك إلى العروبة، ولم يقف الحد ببعض أولئك الممسوخين من عروبتهم ولغتهم حتى يعلن عقوقه لعربيته ولغته، وتاريخه وتراثه إعلاناً صارخاً مخزي3.

وفي المقابل فقد امتلأت بعض الصحف والمجلات، وشغلت كثير من القنوات؛ بأناس إنما هم أدعياء على الشعر والأدب، يصكون أسماع المستمعين بأشعار تافهة باردة، لا تحمل هماً للأمة، ولا تدعو إلى فضيلة!! فالشعر يعلن براءته من هؤلاء، يشغلون أوقات الناس بأشعار لا ألف فيها ولا شين، فهي عار عليهم وهم عار على لغتهم وأمتهم.

لأجل هذا كله كانت هذه الجلسة الأدبية، نتنفس فيها الصعداء مع فحول الشعراء، ونوابغ الأدباء؛ لنقول لأدباء العصر: هكذا فليكن الأدب.

أحبائنا الكرام: لقد تميز شعراء الإسلام الأوائل عن كثير من شعراء الحداثة بميزتين بارزتين:

الأولى: حمل همُّ الدين والدفاع عنه، والوقوف أمام خصومه.

الثانية: تخير الألفاظ المناسبة، واقتناص المعاني البليغة.

وتأملوا معنا في هذا الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل))، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: ((اهجهم)) فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه! ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم! قالت عائشة: فسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول لحسان: ((إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله)) قال حسان – يرد على من هجا النبي صلى الله عليه وسلم -:

هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه                   وعند الله في ذاك الجزاء

هجوتَ محمداً بَراً تقياً              رسول الله شيمته الوفاء

فإن أبي ووالده وعرضي            لعرض محمد منكم وقاء

ثكلت بنيتي إن لم تروها             تثير النقع من كنفي كداء4

تظل جيادنا متمطرات               تلطمهن بالخمر النساء5 فإن أعرضتموا عنا اعتمرنا                   وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لضراب يوم                   يعزُّ الله فيه من يشاء

وقال الله قد أرسلت عبداً          يقول الحق ليس به خفاء

وقال الله قد يسرت جنداً          هم الأنصار عرضتها اللقاء6

لنا في كل يوم من معد              سباب أو قتال أو هجاء

فمن يهجو رسول الله منك                  ويمدحه وينصره سواء

وجبريل رسول الله فينا             وروح القدس ليس له كفاء7

انظروا إلى هذه الشاعرية الفذة، والألفاظ التي يرمي بها على العِدا كالجنادل، لا تبقي ولا تذر، والهمّ السامي الرفيع الذي تحمله هذه القصيدة الرائعة، حتى إنه من أليم ما أصاب المشركين من سهام شعر حسان ورماحه؛ جاء  الحارث بن عوف المري للنبي – صلى الله عليه وسلم – فزعاً مذعوراً من شعر حسان حين هجاه في قصيدته التي يقول فيها:

"وأمانة المرّيّ حيث لقيته            مثل الزجاجة صدعها لم يجبر

فقال: يا محمد أجرني من شعر حسان، فو الله لو مزج به البحر لمزجه"8، هكذا فليكن الشعر أيها الأدباء.

وجولة أخرى مع نجم آخر من نجوم الشعر، وفارس من فرسان الأدب، ورائد من رواد الكلمة (كعب بن مالك – رضي الله عنه -) قال النويري في نهاية الأرب: "وروى أبو عمر بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: بلغني أنّ دوساً إنّما أسلمت فرقاً من قول كعب بن مالك الأنصاري الخزرجي:

قضينا من تهامة كلّ ريب           وخيبر ثم أغمدنا السّيوف9

نخيّرها ولو نطقت لقالت            قواطعهنّ دوساً أو ثقيفاً"10

"قال الواقدي: فتبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لهي أشدُّ عليهم من رَشق النبْل، وقيل أنه قال: لهو أسرع فيهم من السهم في غلس الظلام، فقالت دوسٌ: انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف"11.

نعم إخواننا إنه الشعر حين يحمل المبادئ، والمبادئ حين تحمل الشعر، يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، يأسر القلوب أسراً، فإما مناً بعد وإما فداءً.

فيا أيها الشعراء.. يا أيها الأدباء: خذوها فصيحة صحيحة، لا تتستر بجلباب ولا تتوارى بحجاب:

"من لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر"

أحبتنا الكرام: نودعكم إلى لقاء آخر مع الأدب والأدباء، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه أبو داود في سننه برقم (5013)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1731).

2 (جامع بيان العلم وفضله) ليوسف بن عبد البر النمري (1/105).

3 أنظر على سبيل المثال: http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=19&article=462411&issueno=10698.

4 قال السنوسي: الثكل فقد الولد. صحيح مسلم (4/1935) في (ديوان حسان): موعدها كداء.

5 تظل خيولنا مسرعات يسبق بعضها بعضا، تلطمهن.. قال البرقوقي: يقول تبعثهم الخيل فتنبعث النساء يضربن الخيل بخمرهن لتردها، وكأن سيدنا حسان – رضي الله عنه – أوحي إليه بهذا، وتكلم به عن ظهر الغيب؛ فقد رووا أن نساء مكة يوم فتحها ظللن يضربن وجوه الخيل ليرددنها. صحيح مسلم (4/1935).

6 قال البرقوقي: العرضة من قولهم بعير عرضة للسفر أي قوى عليه وفلان عرضة للشر أي قوي عليه يريد أن الأنصار أقوياء على القتال، همتها وديدنها لقاء القروم الصناديد. صحيح مسلم (4/1935).

7 رواه مسلم برقم (2490)، وقد حذفنا بيتاً من القصيدة.

8 المحاسن والمساوئ لإبراهيم البيهقي (1/186).

9 هو في (نهاية الأرب في فنون الأدب): قضينا من تهامة كلّ وتر، والتعديل من المحاسن والمساوي لوضوحها.

10 (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (18/20).

11 أنظر: (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (18/20)، وزهر الآداب وثمر الألباب (1/39)، والمحاسن والمساوئ (1/186)، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1/4965).