التفسير بالرأي

 

 

التفسير بالرأي

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد:

فإن كلام الله تعالى أجل الكلام وأعظمه، وقد تسابق العلماء رحمهم الله إلى الغوص في معرفة كلام الله ومراده، فألفوا في ذلك المؤلفات وجمعوا فيه المصنفات، وأوضحوه لمن بعدهم.

ولما كان الصحابة الكرام   على منتهى الفصاحة والبلاغة كون القرآن الكريم نزل بلغة قريش، وكان العرب كلهم يعرف لغتهم، كانوا يفهمون القرآن الكريم ويطبقونه عملياً في حياتهم، وكان النبي   يفسر لهم ما عسر عليهم فهمه من الأحكام لكن كان ذلك قليلاً، وإلا فإن الأصل أنهم كانوا يفهمون القرآن غضاً طرياً.

ولما دخلت العجمة إلى بلاد المسلمين عن طريق الاختلاط بالأمم والحضارات الأخرى، احتاج الناس إلى بيان معاني القرآن وجمله وآياته وسوره، فشرع علماء الإسلام رحمهم الله يفسرون القرآن الكريم ويسهلون معانيه، وكان ذلك بنقل الأحاديث عن النبي   التي تفسر بعض الآيات، أو نقل الآثار عن الصحابة في تفسيرهم للقرآن الكريم، أو كلام التابعين لهم.

ثم ظهر ما يسمى بالتفسير بالرأي، وقد ظهر ذلك بين السلف الصالح قديماً، فاختلفوا فيه ما بين ممانع وموافق ومتوسط..

والتفسير بالرأي “هو التفسير القائم على اجتهاد التابعين للصحابة ومن جاء بعدهم من العلماء الأتقياء ذوي الفطن، وهم الذين اتخذوا من سعة علومهم باللغة وإلمامهم بأصول الشريعة وفهمهم لروح الدعوة الإسلامية اتخذوا من ذلك وسيلة للتمحيص والتخريج واستنباط آراء وشروح مفصلة لقضايا وردت في القرآن بطريق الإشارة إليها أو الإجمال لها، وقد فتح ذلك باب التفكر والتدبر في آيات الله وعدم الاقتصار على ظواهرها وعلى آراء السلف فقط في تفسيرها، بل حاولوا الاجتهاد والتعمق في فهمها واستخراج المعاني الدقيقة المنطوية عليها بحيث لا يخالف هذا الاجتهاد روح الشريعة وأهدافها.

وكان أول من استعمل رأيه في التفسير الإمام ابن جرير الطبري، وذلك بعد استعراضه لمختلف التفاسير في زمنه وتمحيصها وترجيح بعضها على بعض وإبداء رأيه الخاص مستعيناً في ذلك باللغة وأسرارها وبمعرفته لتقاليد العرب وآدابهم وثقافته الواسعة في فهم طبائع الأشياء”.1

يقول الزرقاني: “المراد بالرأي هنا: الاجتهاد، فإن كان الاجتهاد موفقاً أي مستنداً إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود، وإلا فمذموم، والأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير نقلها السيوطي في الإتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه: للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:

الأول: النقل عن رسول الله مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

الثانية الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.

الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات، إلا ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.

الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي لابن عباس في قوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).2

فمن فسر القرآن برأيه أي باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز، أو التفسير المحمود، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم.

فالتفسير بالرأي الجائز يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه، وأن يكون صاحبه عارفا بقوانين اللغة خبيرا بأساليبها وأن يكون بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه.

أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي فمن أهمها:

التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة.

ومنها حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة.

ومنها الخوض فيما استأثر الله بعلمه.

ومنها القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل.

ومنها السير مع الهوى والاستحسان.

ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما: الجهالة والضلالة.

وينبغي أن يعلم أن في القرآن علوما تتنوع إلى ثلاثة:

الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه بل استأثر به وحده؛ كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعاً.

الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه واختص به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له   ولمن أذن له الرسول، قيل: ومنه أوائل السور.

الثالث: العلوم التي علمها الله تعالى لنبيه مما أمر بتبليغه، وهذا النوع قسمان: قسم لا يجوز الكلام فيه بطريق السمع كالكلام في الناسخ والمنسوخ والقراءات وقصص الأمم الماضية وأسباب النزول وأخبار الحشر والنشر المعاد. وقسم يعرف بطريق النظر والاستدلال. وهذا منه المختلف في جوازه، وهو ما يتعلق بالآيات المتشابهات، ومنه المتفق على جوازه وهو ما يتعلق بآيات الأحكام والمواعظ والأمثال والحكم ونحوها لمن له أهلية الاجتهاد.3

هذا ما يتعلق بالتفسير بالرأي من شروط وأحكام،، والله الموفق والهادي إلى كل خير. 



1 القرآن وإعجازه العلمي، لمحمد إسماعيل إبراهيم (ص 37).

2 رواه البخاري.

3 العرفان جزء 2 –  صفحة 37