وصايا لقمان

وصايا لقمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

يهب الله – عز وجل – القول السديد لمن يشاء من عباده، ويمنح الحكمة لمن يشاء، ومن أولئك ذلك العبد الصالح لقمان الحكيم.

والعلم لا يعني الحكمة؛ فقد يكون الرجل عالماً ولا يكون حكيماً، وهي إذن من أجلِّ النعم التي تحتاج إلى الشكر يقول الإمام السعدي – رحمه الله تعالى -: “يخبر – تعالى – عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان بالحكمة وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالماً ولا يكون حكيماً، وأما الحكمة فهي مستلزمة للعلم بل وللعمل؛ ولهذا فُسِّرت الحكمة بالعلم النافع، والعمل الصالح، ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة؛ أمره أن يشكره على ما أعطاه؛ ليبارك له فيه، وليزيده من فضله، وأخبره أن شكر الشاكرين يعود نفعه عليهم، وأن من كفر فلم يشكر الله عاد وبال ذلك عليه..”1.

وليس شرطاً أن تؤتى الحكمة لأصحاب الأنساب والأحساب، أو لذوي الهيئات والقامات بسبب ما هم فيه من الحسب، والنسب، والمال، والجاه، بل إن لقمان هذا كان على خلاف ما يتوقعه كثير من الناس، اسمع ما يقوله ابن كثير – رحمه الله تعالى – في وصف لقمان الحكيم: “اختلف السلف في لقمان هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة؟ على قولين: الأكثرون على الثاني، وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيراً، أفطس الأنف، من النوبة، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر، أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوة، وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود؛ فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع – مولى عمر بن الخطاب -، ولقمان الحكيم كان أسود نوبياً ذا مشافر”2، وعلى ما سبق فإن لقمان لم يُذكر أنه نبي بل ذُكر أنه آتاه الله الحكمة وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ3.

عبدٌ أسود حبشي تسمع الدنيا كلها لوصاياه التي تخلد ما خلد القرآن الكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نعم قد يكون أسود اللون لكن قلبه امتلأ إيماناً ونوراً ويقيناً، وآتاه الله علماً وحكمةً، وجعله من الصالحين، وذلك مدعاة أن لا يغتر أحدٌ بلونه، أو حسبه ونسبه، بل ينشغل بذلك عن طلب المعالي، وتحصيل العلم، والمكان العالي.

ولقد وقف لقمان الحكيم مع ابنه وقفة تربية وتوجيه، وهذا ما ينساه الكثير من الآباء، إذ يهتمون بتغذية الجسد ويرمون الروح جانباً، ويهتمون بلباس البدن ويغفلون عن أن خير اللباس لباس التقوى وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ4، فترى من يهمل ابنه فلا يرشده، أو في المقابل من غلا في حرصه على ولده حتى جرَّه ذلك إلى ضربه الضرب المبرح، فلا تسمع إلا الصياح، ولا ترى إلا الصفعات والركلات، وإنك لتتساءل: أين ذهب الحوار والإقناع؟ وأين تنمية الأسس المهمة في تكوين الولد الصالح؟ وأين غرس المفاهيم العظيمة التي يخرج أصحابها إلى هذه الأمة وهم عظماء يقودونها إلى بر الأمان؟

إن أول ما بدأ به لقمان مع ابنه هو التأكيد على مبدأ التوحيد، والتركيز على خطر الشرك، وسوء عاقبته، وأنه من الظلم، بل هو أعظم الظلم، ولم يخبره بذلك وهو مكفهر الوجه بل بكل حنان وشفقة وهو يعظه، ويخاطب قلبه وعقله وعاطفته وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ5، “يا بني تصغير إشفاق”6 ليبين له خطورة الشرك، وأن صاحبه بعيد كل البعد عن حياة العدل، ومساواة الخالق بالمخلوق، ومن بيده ملكوت كل شيء بما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، يقول الإمام السعدي – رحمه الله تعالى -: “ووجه كونه ظلماً عظيماً أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله، وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم، وقلوبهم وأبدانهم؛ إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيءٌ؟ وهل أعظم ظلماً ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده؛ فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدةً لمن لا يسوى شيئاً؛ فظلم نفسه ظلماً كبيراً..”7.

وقد ورد في القرآن في غيرما موضع أن الشرك والكفر ظلم يقع من العبد فجاء في أضواء البيان بعد ذكر قول الله: إن الشرك لظلم عظيم “دلّت هذه الآية الكريمة على أن الشّرك ظلمٌ عظيمٌ، وقد بيَّن – تعالى – ذلك في آيات أُخر كقوله – تعالى -: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ8، وقوله – تعالى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ9، وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ  أنه فسّر الظلم في قوله – تعالى -: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ10 بأنه الشرك، وبيَّن ذلك بقوله هنا: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ1112، ثم قال الله – تعالى -: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ 13 يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله تعالى – في شأن هذه الوصية: “هذه الوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله: بما كنتم تعملون اعتراض بين كلام لقمان؛ لقصد التأكيد لما فيها من النهي عن الشرك بالله، وتفسير التوصية هي قوله: أن اشكر لي ولوالديك، وما بينهما اعتراض بين المفسر والمفسر، وفي جعل الشكر لهما مقترناً بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد، وأكبرها وأشدها وجوباً”14.

فلا نشرك بالله – عز وجل – ولو أدى ذلك إلى مقاطعة الوالدين، فحقهما يأتي بعد حق الله – تعالى -، وإن تعارض أمرهما مع أمر الله فالطاعة لله، وقد نزلت هذه الآية في سعد بن أبي قاص – رضي الله عنه – عندما أسلم، وما حصل من اعتراض على إسلامه من قبل أمه قال ابن كثير – رحمه الله -: “عن سعد بن مالك (وهو سعد بن أبي وقاص) قال: أنزلت فيَّ هذه الآية: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما…الآية قال: كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل، ولا أشرب؛ حتى أموت فتعيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوماً وليلةً لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلةً أخرى لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلةً أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مئة نفسٍ فخرجت نفساً نفساً؛ ما تركت ديني لشيءٍ؛ فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت”15.

ويذكر الله – عز وجل – بعض ما يتعب الوالدين مع ابنهما فيخص الأم كونها أشد تعباً فيقول: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا “ذات وهن أو تهن وهنا عَلَى وَهْنٍ أي: تضعف ضعفاً فوق ضعفٍ، فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ وفطامه في انقضاء عامين، وكانت ترضعه في تلك المدة، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ تفسير لـ (وصينا)”16، فمقابل ما أعطاك الله، وما قدم لك الوالدين؛ قدم شكراً ينفعك في الدنيا والآخرة، وإن أراد والداك منك فعل ما لا يصح فلا تطعهما وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ17، “وَإِن جَاهَدَاكَ أي: اجتهد والداك عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما؛ لأن حق الله مقدم على حق كل أحدٍ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولم يقل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما، بل قال: فَلَا تُطِعْهُمَا أي: في الشرك، وأما برهما فاستمر عليه؛ ولهذا قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي فلا تتبعهما وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ وهم المؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون إليه، واتباع سبيلهم أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله التي هي انجذاب دواعي القلب، وإرادته إلى الله، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله ويقرب منه ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ الطائع والعاصي والمنيب وغيره فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيك على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما، ثم أجازي كلاً منكم بما صدر عنه من الخير والشر، فلا يخفى على الله من أعمالهم خافية”18.

ومما ذكر لقمان الحكيم في وصية أمرٌ مهم لا بد أن يتربى عليه النشء، وأن يكون دائماً متردداً في نفوسهم؛ أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم خائنة الأعين، وأن الإنسان مجازى على كل أعماله صغيرها وكبيرها ولو كانت مثقال ذرة يقول لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ19، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أي: أن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل، وقوله – عز وجل -: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي: أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، وجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر كما قال – تعالى -: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً…الآية، وقال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره۝ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرةٍ صماء، أو غائبةٍ ذاهبةٍ في أرجاء السماوات والأرض؛ فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافيةٌ، ولا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض؛ ولهذا قال – تعالى -: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي: لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقت ولطفت وتضاءلت، خبير بدبيب النمل في الليل البهيم”20.

وإذا خلوت بريبـة في ظلمـة  والنفس داعية إلى الطغيان
 فاستحيي من نظر الإله وقل لها  إن الذي خلق الظلام يراني

ثم يأمر ابنه بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي من أجلِّ العبادات، وأفضل الطاعات، وأحسن القربات فيقول: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ21، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن يفعل المعروف، ويترك المنكر، فهي إشارة لابنه أن يترك المعصية مع إنكارها قال القرطبي – رحمه الله -: “وصى ابنه بعظيم الطاعات وهي الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه، ويزدجر عن المنكر، وهنا هي الطاعات، والفضائل أجمع، ولقد أحسن من قال:

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها  فإذا انتهت عنه فأنت حكيم 22

ومع ما تقوم به من دعوة إلى الله؛ اصبر على ما تجد، وتحمل ما تلاقي، فإنك قد تجد الإيذاء ممن لا تتوقعه، ويذكرنا ذلك ما وقع للنبي  من أقرب الناس إليه عمه أبو لهب يقول سيد قطب – رحمه الله -: “ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره، واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، ومع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على المصاب؛ الأدب الواجب؛ أدب الداعي إلى الله”23.

ولا ينسى لقمان وهو يعظ ابنه أن يؤكد على ضرورة الأخلاق، وهذا الذي تفطن إليه لقمان في نصيحته هو ما نسيه وتغافل عنه الكثير من المسلمين، فأخرجوا لنا جيلاً تمجه الحياة، ويضيق منه الزمن، حتى أصبحت أزمتنا الحقيقية التي أردت بأمتنا إلى آخر الصفوف هي أزمة الأخلاق، وها هو لقمان يحذر ابنه الكبر، والفخر، والبطر، ويبين له أن هذه الأخلاق يبغضها الله – عز وجل – وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ24 “لا تمله عنهم، ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر؛ وهو داء يعتري البعير فيلوي عنقه … ولا تمش في الأرض مرحاً أي: فرحاً… إن الله لا يحب كل مختال فخور علة للنهي”25، فبأن الله لا يحبه إذاً فعله محرم.

وليس من تمام النصح أن تنهاه عن ترك السيئ، ولا تأمره بالشيء الحسن، فبعد تحذيره من الأفعال المشينة وجهه إلى الأفعال الحسنة وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ26 قال القرطبي – رحمه الله تعالى -: “لما نهاه عن الخلق الذميم؛ رسم له الخلق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله، فقال: واقصد في مشيك أي: توسط فيه، والقصد ما بين الإسراع والبطء أي: لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشطار… واغضض من صوتك أي: انقص منه، أي: لا تتكلف رفع الصوت، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك كله التواضع”27، ويبين لقمان أن رفع الصوت ليس دليل على الشجاعة والقوة إذا كان هذا الرفع مما يقصد به الكبر والتعالي عن الناس، فإن أنكر الأصوات لصوت الحمير “قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير أي: غاية من رفع صوته أنه يشبَّه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله – تعالى -، وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه، وذمه غاية الذم”28.

كل هذه الوصايا هي من دلائل الحكمة التي آتاها الله – عز وجل – لقمان، وهي من أهم أصول الحكم والآداب، وما كان في كلامه من أمر فإنه يلزم فعله، وما كان من نهي فإنه يلزم تركه يقول الإمام السعدي – رحمه الله -: “وهذه الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى تركها إن كانت نهياً، وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة أنها العلم بالأحكام، وحكمها ومناسباتها”29.

والله أعلم، وصلِ اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1 تفسير السعدي (1/648).

2 ابن كثير (3/444).

3 سورة لقمان (12).

4 سورة الأعراف (26).

5 سورة لقمان (13).

6 تفسير البيضاوي (4/347).

7 السعدي (1/648).

8 سورة يونس (106).

9 سورة البقرة (254).

10 سورة الأنعام (82).

11 سورة لقمان (13).

12 أضواء البيان (6/180).

13 سورة لقمان (14).

14 فتح القدير (4/238).

15 ابن كثير (3/446).

16 تفسير البيضاوي (4/347).

17 سورة لقمان (15).

18 تفسير السعدي (1/648).

19 سورة لقمان (16).

20 ابن كثير (3/446).

21 سورة لقمان (17).

22 القرطبي (14/68).

23 في ظلال القرآن سورة لقمان آية (17).

24 سورة لقمان (18).

 25 تفسير البيضاوي (4/349).

26 سورة لقمان (19).

27 تفسير القرطبي (14/72).

28 تفسير ابن كثير (3/447).

29 تفسير السعدي (1/649).