جلسة على شاطئ شيخ الإسلام ابن تيمية

جلسة على شاطئ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأصلي وأسلم على خير البرية، وأزكى البشرية، أما بعد:

فقف معنا أيها الأخ الكريم وقفة، واجلس على شاطئ شيخ الإ سلام ابن تيمية – رحمه الله – لتتمتع بالنظر إلى أمواج علمه، وتدفقات فقهه، وغزارة حفظه، ونباهة خاطره، ورباطة جأشه، وثبات بنانه، وقوة استنباطه وفهمه.

فيا ترى من هو؟!

إنه هو شيخ الإسلام الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد لله بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، ولد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة 661 هـ، ولما بلغ من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هرباً من وجه الغزاة التتار، وتوفي ليلة الاثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة 728هـ وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق، وعمره 67 سنة، فهبَّ كل أهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه، وتشييع جنازته، وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر جنازته جمهور كبير جداً يفوق الوصف.

طهره في شبابه:

كان ابن تيمية من الصغر في عناية الله – عز وجل – وفي رعايته، نشأ بين جنبات بيته الطاهر العفيف، وحفظ كتاب الله من الصغر، وتعلم السنة، وأخذ الآداب الإسلامية من أهل العلم، كما عاش عفيفاً رزيناً، عاقلاً محافظاً على الفرائض، معتنياً بالسنن، كثير الأذكار والأوراد، بعيداً عن اللهو والبذخ واللعب.

جده في التحصيل وحفظه:

نقل المؤرخون وأهل السير أن ابن تيمية كان منشغلاً في كل أوقاته بتحصيل العلم ما بين قراءة، وتكرار، وحفظ، ومذاكرة، واستنباط، وكتابة، وتأليف، وتعليق، حتى إنه لم يتزوج – رحمه الله – لانشغاله بالعلم والجهاد، ونشر الخير في الناس، ولم يتول أي ولاية ولا مشيخة ولا منصب دنيوي، ولم يتشاغل بالمال، ولم ينهل من علم واحد، ولا من تخصص فحسب، بل تبحر في جميع الفنون فبرع فيها، وردَّ على أصحابها، ورسخ في الجميع فصار آية، وأصبح أعجوبةً، فبتحصيله يضرب المثل بين طلبة العلم، واعترف الكل له بأنه أحفظ من رأوا، وذكر عن نفسه أنه يقرأ المجلد فيرسخ في ذهنه، وبذلك حفظ كتاب الله – عز وجل -، وحفظ السنة المطهرة، وحفظ أقوال أهل العلم، وحفظ الآثار، وحفظ التفاسير، وحفظ شواهد اللغة.

همته – رحمه الله تعالى -:

لم يرض بعلم دون علم، ولم يقنع بتخصص دون تخصص، بل رسخ في الجميع، ومهر في الكل، تتجلى همته في العبادة، فقد كان خاشعاً منيباً متسنناً، كثير الأوراد صلاة وصياماً، وذكراً ودعاء، وأكثر في التأليف فهو من العلماء الثلاثة الذين بلغوا الغاية في التأليف وهم ابن الجوزي، والسيوطي، بالإضافة إليه، وقد كان أكثرهم تحقيقاً وتنقيحاً، ورسوخاً وعمقاً، ونفعاً وأثراً في الأمة، حتى قيل إن مؤلفاته بلغت بالرسائل والكتب أكثر من ألف مؤلف، ولو جمعت لكانت أكثر من خمسمائة مجلد، وقد ضاع منها الكثير، كما تتجلى همته في الدعوة ؛ فقد اشتغل بالدعوة الفردية، والدعوة الجماعية، ودعوة السلطان وحاشيته، ودعوة العامة، ودعوة الطوائف جميعاً، ودعوة غير المسلمين.

ابن تيمية مع الدليل:

وكان – رحمه الله – لا يقول قولاً له دليل في الكتاب أو في السنة إلا أورده، وهو يوصي طالب العلم أن يعتصم في كل مسألة بدليل ثابت، وألا يكون مقلداً.

ابن تيمية مفسراً:

فقد حوى التفسير، وطالع كتبه جميعاً، وحصرها، وقد نقل أن له تفسيراً خاصاً به، فأحياناً يورد الآية ثم يسهب في مقاصدها، ومعانيها، ومراميها، وأحياناً يظهر أغلاط كثير من المفسرين، ويرى أنهم وهموا وأخطئوا فيما ذهبوا إليه، كل ذلك بكلام رجل عرف اللغة، ومدلول الكلام، والنقل صحيحه وسقيمه.

ابن تيمية محدثاً:

المحدثون هم بمنزلة أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وقد أشاد بهم ابن تيمية ومدحهم بشتى المدائح، وقال إن لهم نصيباً من قوله – سبحانه وتعالى -: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}1، وأنزلهم منزلة الصحابة في الفضل، وأنزل أهل المنطق والفلسفة منزلة المنافقين، وكان ابن تيمية – رحمه الله تعالى – ينسب الحديث إلى من خرجه، ويبين مصادر كل رواية، ويبين الزيادة، ويعرف الشاذ، ويدرك المنكر، ومن طالع كتبه بتمعن وجد أنه محدث من أكبر المحدثين، بل شهد له معاصروه من أهل الحديث بذلك.

ابن تيمية فقيهاً:

والفقه هو إدراك معنى النص، والغوص في دلالة النقل، وهكذا كان ابن تيمية، فليس فقهه فقه من ينقل الأقوال أو يتبع كلام الأئمة، ويحفظه وينقله لنا، لكنه أدرك أقوال الأئمة جميعها، وأقوال الموافقين والمخالفين، وأهل المذاهب والروايات المختلفة لكل عالم، ثم جعل النص نصب عينيه، واستنبط منه، ثم ذكر من وافقه ومن خالفه.

ابن تيمية مناظراً:

حيث نقل عنه أهل السير أنه كان يحضر مجالس المناظرة، وتعقد له مناظرة مع خصومه ومخالفيه فيأتي بما يبهر الألباب، ويعلو عليهم، وينتصر بالحجة الدامغة، والذاكرة الواعية، والبديهة اللماحة، حتى إنه ناظر كثيراً من الطوائف في حضور السلطان، وعلى مرأى من الخاصة والعامة؛ فكان الحق معه، وكان لا يكلُّ ولا يملُّ من المناظرة، بل كان يستدرج من يناظره ويحاوره حتى يوقعه ويصرعه، كل ذلك ومقصوده أن يكون الحق هو المنتصر في الآخر، فليس قصده المغالبة لذاتها، ولا قصده الظهور والشهرة، ولا قصده أن تكون له منزلة ولا مكانة، فقد ترك المنازل الدنيوية لأهلها.

ابن تيمية مجاهداً:

وقد عُرف ابن تيمية بالجهاد العلمي والعملي، فجاهد جهاد الكلمة عبر الدروس والخطب، والمحاضرة والوعظ، والنصائح والكلمة، وعبر الرسالة والمؤلف، والفتوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد بالسيف فقد حضر غزوة "شقحب"2، ودعا الناس للجهاد بالفطر في رمضان، وثبت ثبات الجبال، وأبلى بلاءً حسناً.

ابن تيمية عابداً:

وكان ابن تيمية في جانب العبادة من الصالحين الكبار، فكانت صلاته طويلة، كثير الذكر حتى إنه لا يفتر لسانه، ويمضي الليل الطويل ما بين الركوع والسجود، والقنوت والبكاء والتضرع، وكانت تلوح عليه أنوار الطاعة، وإذا خرج إلى الأسواق ورآه الناس كبروا وهللوا، وكان إذا قرأ القرآن قرأه بصوت خاشع مبك حزين، وكان كثير الصدقات.

سرعة خطه:

ومن لطائف سيرة الشيخ ابن تيمية – رحمه الله تعالى – أنه سريع الخط، فخطه أسرع من كلامه، وربما ألف فى الجلسة الواحدة كتاباً "كالتدمرية"، و"الحموية"، و"الواسطية"، فكان يتناول القلم ثم لا يتوقف، وليس عنده أوراق ولا مراجع، ولا كتب قريبة منه ولا مصنفات، وإنما يفيض الله – سبحانه وتعالى – عليه من فتوحاته، ومما استودعته ذاكرته العجيبة القوية.

ابن تيمية ومشروعه الإصلاحي:

حيث كان له مشروع إصلاحي يهمه ويؤرقه؛ وهو إعادة الناس إلى الكتاب والسنة وهو ما يسمى "بالتجديد"، همه أن يجدد للأمة ما درس من دينها، وأن يعيدها إلى ما كان عليه الرسول – عليه الصلاة والسلام – وأصحابه والتابعون.

ابن تيمية والمعاصرة:

ولما حوى ابن تيمية – رحمه الله – الفنون وجمعها نفعه ذلك في أن يكون له أسلوب عصري متميز، غير متخل عن مبادئه وأصوله الأولى السلفية السنية، ولكنه يكسو كلامه بجلباب المعاصرة، وبعبارات من عاصروه من العلماء، وأنه لا غضاضة في أن يستفيد من مصطلحات معاصريه إذا كانت جميلة، وكانت قوالبها أخاذة مؤثرة لتحمل الحق الذي أخذه من الكتاب والسنة؛ ولذلك كان يتكلم للفلاسفة بمصطلحاتهم، وللمتكلمين بجملهم، وللصوفية بإشاراتهم، وللمعاصرين من الفقهاء بكلامهم، وهذا الذي يسر له الانتشار والعموم والاهتمام.

ابن تيمية داعية:

دعا إلى الله بعمله ومقاله، وقلمه وكتبه ورسائله فلم يقتصر علمه على الفتيا فحسب، ولم ينتظر في بيته ليأتيه الناس، بل ذهب إلى غيره، وزار الأماكن العامة، وتكلم مع الخاصة، ودخل على السلطان، وحاور الفرق المخالفة، وناظر المبتدعة، وراسل الأقاليم، وعمل بعلمه كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}3.

جرأته:

ومن مزايا هذا الإمام أنه كان ثابت الجنان لا يخاف من بشر، ولا يرهب إنساناً، سُجن عدة مرات فما رهب وما عاد عن رأيه، ودخل على الملوك فكاد يزلزل عروشهم بكلامه القوي الصادق العميق، وكان يشرح فكرته في كل مكان.

تعظيمه لربه:

فتعظيمه لربه – سبحانه وتعالى – ظاهر من كتاباته، وفي رسائله وتأليفه، وحتى قال بعض الفضلاء من المعاصرين: "كنت إذا ضعفت في إيماني عدت إلى المجلد الأول في "الفتاوى"، وقرأت تعظيم ابن تيمية لربه، ومدحه لمولاه، وكلامه عن قدرة خالقه – سبحانه وتعالى -، وعن أسمائه وصفاته، بأسلوب عجيب يأخذ بمجامع القلب، ويستولي على منافذ النفس".

توقيره لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -:

فقد كان يوقر رسول الهدى – صلى الله عليه وسلم – ويحترمه، وينصر أقواله، ويقدم قوله على قول كل قائل من الناس، ودافع عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وأوذي بسبب هذا الدفاع، وألف كتابه الشهير "الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -".

ابن تيمية والوسطية:

يقول – سبحانه وتعالى – {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}4، والتوسط في الأمور يدل على العلم التام، والخشية المتناهية، والعقل الراجح، وكذلك كان شيخ الإسلام، يدعو طالب العلم والحق وحامله أن يكون وسطاً في كل أموره، حتى في أخلاقه وسلوكه، فإن الدين جاء بالوسط لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.

وفي ختام هذه الجلسة الماتعة على شاطئ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – نقول لك: "نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك".

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 


1 سورة الشرح (4).

2 كانت سنة 702 هـ عندما أراد حفيد "هولاكو" الملك "قازان" إنهاء حكم المسلمين في مصر، وتسليم بيت المقدس للنصارى، فجهز لهذه المهمة جيوشاً جرارة، وتقدمت جيوشه إلى بلاد "حلب" و"حماة" حتى وصلت إلى "حمص" و"بعلبك" فتصدى لهم المسلمون بعد أن قام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – بشحذ همم المسلمين شعوباً وحكاماً لمواجهة الغزاة، والدفاع عن المقدسات، ودارت رحى الحرب في سهل شقحب حيث كتب النصر للمسلمين.

3 سورة فصلت (33).

4 سورة البقرة (143).