هكذا كان المعلم – صلى الله عليه وسلم –

هكذا كان المعلم – صلى الله عليه وسلم –

 

إن الحمد لله، نحمده – تعالى – ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أ تاه اليقين من ربه، فصلوات الله عليه في الأولين، وصلوات الله عليه في الآخرين، وصلوات الله عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}4، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من كل ضلالة تهوي بصاحبها إلى النار، أما بعد:

معاشر المؤمنين: حديثنا في هذا اليوم من على أعواد هذا المنبر هو عن خير البرية، وأزكى البشرية؛ أعني أبا القاسم:

والله ما طلعت شمس ولا غربت              إلا وحبك مقرون بأنفاسي

ولا جـلست إلى قوم أحدثهم              إلا وأنت حديثي بين جلاسي

هو جميل الصفات، مشرق المحيا، القريب من القلوب، الحبيب إلى الأرواح، سهل الطبيعة، ميسر الطريقة، مبارك الحال، تعلوه مهابة، وترافقه جلالة، على وجهه نور الرسالة، وعلى ثغره بسمة المحبة:

صلى عليك الله يا علم الهدى      واستبشرت بقدومك الأيام

هتفت لك الأرواح من أشواقها   وازينــت بحديثك الأقلام

كان – صلى الله عليه وسلم – حي القلب، ذكي الخاطر، عظيم الفطنة، سديد الرأي، ريان المشاعر، بالخير يسعد به جليسه، وينعم به رفيقه، ويرتاح له صاحبه، يحب الفأل، ويكره الطيرة، يعفو ويصفح، ويسخو ويمنح، أجود من الريح المرسلة، وأكرم من الغيث الهاطل، وأبهى من البدر، وسع الناس بأخلاقه، وطوق الرجال بكرمه، وأسعد البشرية بدعوته، من رآه أحبه، ومن عرفه هابه، ومن داخله أجله، كلامه يأخذ بالقلوب، وسجاياه تأسر الأرواح:

نور العرارة نوره ونسيمه           نشر الخزامى في اخضرار آسي

وعليه تاج محبة من ربـه           ما صيغ من ذهب ولا من ماس

وقد كان – صلى الله عليه وسلم- آيةً في الصدق: فهو صادق مع ربه، صادق مع نفسه، صادق مع الناس، صادق مع أهله، صادق مع أعدائه، فلو كان الصدق رجلاً لكان محمد – صلى الله عليه وسلم -، وهل يُتعلم الصدق إلا منه بأبي هو وأمي؟ وهل ينقل الصدق إلا عنه بنفسي هو؟ فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بالله بعد الوحي و الهداية، ونزول جبريل عليه، ونبوته، وإكرام الله له بالاصطفاء والاجتباء والاختيار؟

وكان – صلى الله عليه وسلم- آيةً في الصبر: مات عمه ونصيره أبو طالب فصبر، وماتت زوجته الصادقة الوفية خديجة فصبر، وقُتل بطله حمزة فصبر، وأُبعد من مكة فصبر، وتوفي أبناؤه فصبر، ورُميت زوجته الطاهرة عائشة المرضيَّة فصبر، وكُذب فصبر، قالوا له "شاعر، كاهن، ساحر، مجنون، كاذب، مفتر" فصبر، أخرجوه وآذوه وشتموه، وسبوه وحاربوه وسجنوه فصبر، فهل يُتعلم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر، وجليل الصبر، وعظيم التحمل، وثبات القلب، وهو إمام الصابرين، وقدوة الشاكرين.

وكان – صلى الله عليه وسلم- آيةً في الجود: يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بُعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أَعطى لأعرابي غنماً بين جبلين، وأَعطى كل رئيس قبيلة من العرب مئة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يرد طالب حاجة، قد وسع الناس بره، طعامه مبذول، وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجهه بسام:

ما قال "لا" قط إلا في تشهده      لولا التشهد كانت لاؤه نعم

وكان – صلى الله عليه وسلم- آيةً في الشجاعة: فقد نام الناس ليلة بدر وما نام هو – صلى الله عليه وسلم -، بل قام يصلي ويدعو، ويتضرع ويتوسل إلى ربه، ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام ما أشجعه، لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد، والصنديد الوحيد، الذي كملت فيه صفات الشجاعة، وتمت فيه سجايا الإقدام، وقوة البأس، وهو القائل: ((والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل))5.

وكان – صلى الله عليه وسلم- آيةً في التواضع: فكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله))6، وكان ينهى أن يُقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة، ويقول: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت, ولو أهدي إلي ذراع لقبلت))7، وكان يحمل حاجة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويكنس بيته، ويحلب شاته، ويقطع اللحم مع أهله، ويقرب الطعام لضيفه، ويباسط زواره، ويسأل عن أخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف، ويأكل الشعير، وربما مشى حافياً، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف، ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم، ويرافق الوحيد منهم.

وكان – صلى الله عليه وسلم – آيةً في الحلم: فكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم، ويعفو عنهم فيما صدر منهم، ويدخل عليهم بساماً ضحاكاً، يملأ بيوتهم وقلوبهم أنساً وسعادةً، يقول خادمه أنس بن مالك – رضي الله عنه -: "خدمت رسول الله عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لمَ فعلت هذا؟ ولا في شيء لم أفعله: لمَ لم تفعل هذا؟" وهذا غاية الحلم، ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا، ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه ووده وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكَّن حبه من القلوب، فتعلقت به الأرواح، ومالت له نفوس الناس بالكلية.

وكان – صلى الله عليه وسلم – آيةً في الرحمة: فكان رحمهً على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقه، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف؛ لئلا يشق على أمه، ولما بكت أمامة بنت زينب (ابنته) حملها وهو يصلي بالناس، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها، وسجد مرة أخرى فصعد الحسن – رضي الله عنه – على ظهره، فأطال السجود، فلما سلم اعتذر للناس وقال: ((إن ابني هذا ارتحلني، فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل))8، فهو سهل ميسر رحيم في رسالته ودعوته، وعبادته وصلاته، وصومه وطعامه، وشرابه ولباسه، وحلُّه وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر كاملاً إلا معه، ولا في شريعة كما في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه – صلى الله عليه وسلم -.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا فادعوا الله واستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

معاشر المؤمنين: كم نعد من صفات الحبيب؟ وكم نحصي من شمائل المصطفى؟ يكفيه أنه رحمة للعالمين، وسيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، والشافع المشفع.

ومن صفاته أنه كان آية في الذكر: فكان أكثر الناس ذكراً لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر، وخطبه ذكر، ومواعظه ذكر، وعبادته ذكر، وجهاده ذكر، وفتاويه ذكر، وليله ونهاره، وسفره وإقامته، بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه – عز وجل -، فقلبه معلَّق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر إليه يُذَكِّر الناس بربهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته ذكر لخالقه – جل في علاه -، أحبه الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد؛ لأنه ملك القلوب بعطفه، وأسر الأرواح بفضله، وطوَّق الأعناق بكرمه، عظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطباع، نقي الفطرة، جمُّ الحياء، حي العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة، قمة الفضائل، ومنبع الجود، مطلع الخير، غاية الإحسان، سبق العالم ديانة وأمانة، وصيانة ورزانة، وتفوق على الكل علماً وحلماً، وكرماً ونبلاً، وشجاعة وتضحيةً، أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجل الحكماء، قدَّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلَّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له                وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

فصلى الله عليه وسلم ما تحرك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردد حديثه الإنس والجان.

عباد الله: صلو ا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه حيث أمركم ربكم فقال ولم يزل قائلاً عليماً {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}9.

بلغ العلى بكمالـه        كشف الدجى بجماله

عظمت جميع خصاله       صلوا عليه وآلـــه

عباد الله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}10، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}11 وأقم الصلاة.


 


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة النساء (1).

3 سورة الأحزاب (70-71).

4 سورة الحشر (18).

5 رواه البخاري برقم (36).

6 رواه البخاري برقم (3445).

7 رواه البخاري برقم (2568).

8 رواه النسائي برقم (1141)، وحسنه الألباني في الثمر المستطاب (1/759).

9 سورة الأحزاب (56).

10 سورة النحل (90).

11 سورة العنكبوت (45).