لا تكن عبوساً

لا تكن عبوساً

لا تكن عبوساً

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:

إذا خلت الحياة من المزاح بتاتاً، تضحى كأرض قاحلة لا كلأ فيها ولا ماء، وبذلك لا يجد المرء لنفسه فيها متنفساً يتنفسه، فيعيش العقد النفسية، والأزمات الروحية.

وعليه فليس المراد من الإنسان أن يعيش حياته عبوساً مهموماً، تتحسر شفتاه على أن تمر البسمة عليها يوماً، وينعش قلبه إلى طرفة تدخل عليه السرور.

وفي الوقت ذاته لا يراد منه-أيضاً- أن يكون المزاح طابع حياته الأساسي، فلا يمر حديث ألا ويمزح، ولا يشاهد موقف إلا ويمزح، ولا يتنفس إلا ويمزح، وقد يشط به المزاح ليدخل حتى في المحظورات، سواء كانت غيبة أو همز أو لمز أو نحو ذلك.

وقد عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على عبوسه في وجه ابن أم مكتوم كما في سورة عبس، وهي حالة نادرة من النبي عليه الصلاة والسلام وإلا فكل حياته حلم وأناة وتبسم وتبشير بالخير وكان يمزح مع أصحابه مع عزة نفس وكرم خلق وصيانة دين ودنيا، عن أنس بن مالك أن رجلاً استحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إني حاملك على ولد الناقة)، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ).1

ومن مزاحه -صلى الله عليه وسلم- ما رواه أنس قال: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: (يا أبا عمير ما فعل النغير2؟)3 وقد كان له نغير يلعب به فمات.

هذا حبيبنا الذي حمل هم الأمة كلها ومع كل هذا كان يمزح ولا يقول إلا حقاً كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام.

أخي: إن كان عبوسك لصروف الأيام فالعبوس لا يصلح حال ولا يشفي مريضاً ولا يغيث ملهوفا ولا ينصر مظلوماً ولا يحيي ميتاً ولا يداوي جريحاً ولا يكشف كرب أمةً ولا يرد غائباً، فلا تحزن، ولا تعبس لأن الفائدة منه معدومة.

لا تحزن: لأنك جربت الحزن بالأمس فما نفعك شيئاً، رسب ابنك فحزنت، فهل نجح؟! مات والدك فحزنت فهل عاد حياً؟! خسرت تجارتك فحزنت، فهل عادت الخسائر أرباحاً؟!.

لا تحزن: لأنك حزنت من المصيبة فصارت مصائب، وحزنت من الفقر فازددت نكداً، وحزنت من كلام أعدائك فأعنتهم عليك، وحزنت من توقع مكروه فما وقع.

لا تحزن: فإنه لن ينفعك مع الحزن دار واسعة، ولا زوجة حسناء، ولا مال وفير، ولا منصب سام، ولا أولاد نجباء.

لا تحزن: لأن الحزن يريك الماء الزلال علقمة، والوردة حنظلة، والحديقة صحراء قاحلة، والحياة سجناً لا يطاق.

لا تحزن: وأنت عندك عينان، وأذنان وشفتان ويدان ورجلان ولسان، وجنان وأمن وأمان وعافية في الأبدان.

لا تحزن: ولك دين تعتقده، وبيت تسكنه، وخبز تأكله، وماء تشربه، وثوب تلبسه، وزوجة تأوي إليها، فلماذا تحزن؟!4

وإن كان من شيء يستثنى في هذا المجال فهو الحزن على ما يصيب بلاد المسلمين، في العراق وفلسطين والصومال وأفغانستان وغيرها من بقاع الإسلام.

لكن هذا الحزن يكون في إطار الشرع فقد كان يحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحزن أصحابه رضي الله عنهم جميعاً ويحزن الصالحون لكن مع العمل ومع الدعاء ومع الصبر ومع الثقة بوعد الله.

وكان يحصل لهم من الكروب أشدها ومن المصائب أعظمها، ومن النكبات آلمها.

وإن كان من حزن في الدنيا فهو على أيام مضت من العمر لم تُعمَّر بطاعة الله، ليكون ذلك داعياً لاستغلال الأوقات المستقبلة، وإلا فلا يجدي شيئاً.

فلا تكن عبوساً يؤوساً، ولتسعك ابتسامتك، وحلمك، وخلقك.

لا تكن عبوساً فيعبس الدهر في وجهك، فإن الحياة الدنيا لا تستحق منا العبوس والتذمر والتبرم.

جبلت على كدر و أنت تريدها ومكلف الأيام ضد طباعها فإذا رجوت المستحيل فإنما

 

 

صفوا من الأقذار و الأكدار متطلب في الماء جذوة نار تبني الرجاء على شفير هار

 

فاللهم أزل عنا الكروب، وبدل أحزاننا سروراً، وألبسنا لباس التقوى والحبور، وجنّبنا المصائب والشرور، إنك عزيز غفور. والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه الترمذي (1914) وصححه الألباني: انظر صحيح المشكاة (4886)، مختصر الشمائل (203).

2 النغير: تصغير النغر هو طائر صغير جمعه نغران.

3 رواه البخاري (5778).

4 من محاضرة للشيخ عائض القرني بعنوان "لا تحزن".