هل كان الخضر نبياً؟

هل كان الخضر نبياً؟

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لاإله إلا هو وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً – كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد اختلفت الأقوال، وتباينت الأحكام؛ في نبوة الخضر – عليه السلام -، فمن قائل بنبوته، وآخر بولايته، وثالث بصلاحه وعبادته، وسبب الاختلاف راجع في جملته إلى اختلاف الأفهام في استنباط الأحكام من سورة الكهف، وأحاديث الرسول  في شأنه، ولعلنا نذكر ما يشفي الغليل، ويزيل اللبس؛ حول هذه المسألة، مستشهدين بأقوال العلماء المحققين، والجهابذة المفسرين؛ مستمدين من الله التوفيق والسداد.

أولاً: إثبات نبوة الخضر – عليه السلام -:

استدل أصحاب هذا القول بجملة من الأدلة منها:

أن الله وصفه بالعبودية وهو أشرف مقام، ولا يشرِّف الله بهذا الوصف إلا أنبيائه؛ كما وصف محمداً  فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ1، فقال في الخضر: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا2.

قوله بعد قتل الغلام، وخرق السفينة، وبناء الجدار: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا3، والمعنى أنه أوحي إليه بفعل هذه الأفعال، والوحي لا يكون إلا لنبي.

 قوله لموسى – عليه السلام -: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا4 أي بوحي من الله.

 أن الولي أقل رتبة من النبي، والأولياء يتبعون الأنبياء لا العكس، وموسى – عليه السلام – نبي فلا يمكن أن يكون تابعاً لمن هو أقل رتبةً منه كما قال موسى – عليه السلام -: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا5.

قوله: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا6، والعلم اللدني هو ما كان بواسطة وحي وإلهام، وهذا لا يكون إلا للأنبياء.

تواضع موسى – عليه السلام – له مما يدل على نبوته عند قوله: سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا7.

وخلاف العلماء يرجع إلى ثلاثة أقوال: وجمهور العلماء على أنه نبي، وجماعة من الصوفية يقولون: هو ولي، وجماعة يقولون: هو ملك، قال الإمام النووي: “وقول القائلين: هو ملك؛ باطل، كما أنه ليس بولي”، ولكن كما قال جمهور العلماء: “الخضر نبي لكن لم يرسل لأحد، فهناك فرق بين النبي وبين الرسول”، فالنبي: هو رجل اختاره الله – عز وجل – واجتباه وعلمه، فيقال: هذا نبي ليست معه رسالة لأحد إنما هو مقام ورتبة شريفة، والرسول: هو الذي أرسل لجماعة من الناس، أو طائفة، أو أسرة، أو للناس جميعاً كما هو حال النبي – عليه الصلاة والسلام -، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول، وعلى هذا فإن الخضر – عليه السلام – نبي ليس برسول إذ ليست معه رسالة لأحد، ولم يبعث لأحد، وبهذا قال أئمة الإسلام، وعلماء الأمة؛ كما حكى الرازي أنه مذهب أكثر العلماء من المحققين، قال الإمام النووي – رحمه الله -: “وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال أحدها: نبي، والثاني: ولي، والثالث: من الملائكة وهذا غريب باطل، قال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو ولي، قال: واحتج من قال بنبوته بقوله: “وما فعلته عن أمري” فدل على أنه نبي أوحي إليه، وبأنه أعلم من موسى، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وأجاب الآخرون: بأنه يجوز أن يكون قد أوحى الله إلى نبي في ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك، وقال الثعلبي المفسر: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار؛ يعني عن أبصار أكثر الناس”8

وسُئِلَ شَّيْخُ الإسلام ابن تيمية – رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَلْ كَانَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا؟ فَأَجَابَ: “أَمَّا نُبُوَّتُهُ: فَمِنْ بَعْدِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ  لَمْ يُوحَ إلَيْهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَأَمَّا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ  فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ نَبِيٌّ؛ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ سُلِبَ النُّبُوَّةَ؛ بَلْ يَقُولُ: هُوَ كَإِلْيَاسَ نَبِيٌّ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَتَرْكُ الْوَحْيِ إلَيْهِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ نَفْيًا لِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ كَمَا لَوْ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ النَّبِيِّ  فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ رِسَالَتِهِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا مَعَ أَنَّ نُبُوَّةَ مَنْ قَبْلَنَا يَقْرُبُ كَثِيرٌ مِنْهَا مِنْ الْكَرَامَةِ وَالْكَمَالِ فِي الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْ النَّبِيِّينَ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّدِّيقِينَ كَمَا رَتَّبَهُ الْقُرْآنُ، وَكَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ قَالَ: مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، وَرُوِيَ عَنْهُ  أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَسْمَعُ الصَّوْتَ فَيَكُونُ نَبِيًّا، وَفِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَيَرَى الضَّوْءَ؛ وَلَيْسَ بِنَبِيِّ؛ لِأَنَّ مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ يَجِبُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ؛ فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ خَالَفَهُ تَيَقَّنَ أَنَّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقِينٌ لَا يُخَالِطُهُ رَيْبٌ، وَلَا يَحُوجُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمُوَافَقَةِ غَيْرِهِ”9.

ثانياً: أدلة من نفى نبوته:

منها: أن الله وصفه بالعبودية، وذكر منَّته عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبياً لذكر ذلك، وأما قوله: “وما فعلته عن أمري” فإنه لا يدل على أنه نبي، وإنما يدل على الإلهام والتحديث كما ألهم أم موسى والنحل.

ومنها: أنه باتفاق لم يبلغ ولم يرسل إلى قوم ينذرهم؛ وهذا مخالف لمقتضى إرسال الرسل، وبعثة الأنبياء، والله لا يرسل ويفعل عبثاً بل لحكمة، وإذا تصفحنا القرآن من أوله إلى آخره إذ بالانبياء كلهم يقولون: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ10، وذهب إلى هذا عامة الصوفية قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: “وذهب إِلى أَنه كان ولياً جماعة من الصوفية، قال به أَبو يعلى، وابن أَبي موسى من الحنابلة، وأَبو بكر بن الأَنباري”11، ولبعضهم في ولايته عظائم يصل بعضها إِلى الكفر كما نبه عليه جمع من العلماء منهم شيخ الإِسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في “الفتاوى”12، وقال ابن حجر – رحمه الله -: “كان بعض أَكابر العلماء يقول: أَول عقدة تحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبياً؛ لأَن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إَلى أَن الولي أَفضل من النبي كما قال قائلهم:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي13

       والراجح: أنه نبي لأدلة أصحاب القول الأول، وضئآلة أدلة أصحاب القول الثاني، والله أعلم، والحمد لله أولاً وآخراً.


1 سورة الإسراء (1).

2 سورة الكهف (65).

3 سورة الكهف (82).

4 سورة الكهف (78).

5 سورة الكهف (66).

6 سورة الكهف (65).

7 سورة الكهف (69).

8 شرح النووي على مسلم (ج15 ص136).

9 مجموع الفتاوى لابن تيمية (ج4 ص238).

10 سورة الأعراف (62).

11 الزهر النضر لابن حجر (ص69).

12 الفتاوى (ج11 ص422) و(ج13 ص267).

13 الزهر النضر لابن حجر (ص67).