التشاح في الأذان و الإقامة

التشاح في الأذان و الإقامة

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على النبي المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه نجوم الدنيا والسادة الأخيار، أما بعد:

فإن من الأعمال الفاضلة التي يتسابق أهل الإسلام إليها، ويتنافس أبناء الآخرة عليها هي: الأذان؛ وذلك لما جاء في فضله من المقامات العالية، والأجور العظيمة السامية التي تدفع أصحاب القلوب القاصدة وجه الكريم للحرص عليه نيلاً للأجر، وتحصيلاً للفضل، وقد يصل الأمر بينهم إلى حد التشاح والاستيثار كلٌ يسعى ليكون له سابقة القدم في ذلك، لهفاً لما أعده الله لعباده من النزل، وطمعاً في ابتغاء الفضل والشرف وأعلى المثل، وما تشاجرهم على الأذان في القادسية، واختصامهم إلى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – إلا مؤكد وشاهد على ذلك.

فما حكم هذا التشاح، ومن يقدم والحالة هذه؟

هذا ما سنـتناوله من خلال الآتي:

أولاً: ما المراد بالتشاح:

التشاح لغة: أصله من الشح، والشح: البخل مع حرص، يقال: تشاح الرجلان على الأمر: حرص كل منهما على أن لا يفوته1.

وفي الاصطلاح: هو تنازع جماعة على أمر لا يريد كل واحد منهم أن يفوته على نفسه.

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: التشاح في الأذان.

فإذا تنازع رجلان أو أكثر على الأذان، ولم يكن للمسجد مؤذن راتب، أو كان له مؤذنون وتنازعوا في الابتداء؛ فإنه يقدم أفضلهم في الخصال المعتبرة في التأذين، فيقدم من كان أعلى صوتاً وأحسن لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن زيد: ((فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاًً منك))2، وقدم أبا محذورة لصوته.

وكذلك يقدم من كان صيتاً، وأبلغ في معرفة الوقت، وأشد محافظة عليه؛ لأنه مؤتمن، ويقدم أيضاً أفضلهم ديناً وعقلاً لحديث: ((ليؤذن لكم خياركم…))3.

كل ما تقدم هو باتفاق جمهور الفقهاء في الجملة، وليس عند الأحناف نص صريح في هذه المسألة، وتفصيل ما ذكر عند فقهاء الحنابلة4.

فإن تساووا في تلك الصفات فللفقهاء قولان فيمن يقدم:

القول الأول:

أنه يقرع بينهم، وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية، ورواية عند الحنابلة5.

واستدلوا من السنة بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا…))6.

وقالوا أن وجه الدلالة في الحديث: أن قوله: ((ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا)) أي لم يجدوا شيئاً من وجوه الأولوية من شرائط المؤذن وتكملاته7، فدل على أنه عند التساوي في شروط المؤذن وتكملاته يلجأ إلى القرعة.

ومن الآثار: ما روي أنه "تشاجر الناس في الأذان بالقادسية8 فاختصموا إلى سعد فأقرع بينهم"9.

القول الثاني:

أنه يقدم من يختاره الجيران، فإن استووا يقرع بينهم، وهو رواية عند الحنابلة هي المذهب10.

وقالوا أن من المعقول:

– أن الناس أعلم بمن يبلغهم صوته، ومن هو أعف عن النظر11.

– أن الناس لو تشاحوا في عمارة المسجد كان أهل المسجد أحق فكذا ثمرته12.

الترجيح:

والذي يظهر – والله أعلم – أن الخلاف يكاد يكون خلافاً لفظياً، لأن الفريقين متفقان على الاقتراع عند التشاح، إلا أن أصحاب القول الثاني قالوا بتقديم من يختاره الجيران على الاقتراع، ولا شك أن اختيار الجيران سيكون لمن هو أفضل في الصفات المعتبرة للأذان، وهذا ظاهر من استدلالهم حيث قالوا: لأن الناس أعلم بمن يبلغهم صوته، ومن أعف عن النظر، وهي من الصفات المطلوبة في المؤذن.

ثانياً: التشاح في الإقامة:

إذا تشاح جماعة على الإقامة فمن أذن أولاً أولى به13 لأنه بتقدمه استحق الإقامة، فأذان الثاني بعده لا يسقط ما ثبت للأول14إلا أن يكون المؤذن الراتب غيره، فالراتب أولى بالإقامة15.

نسأل الله أن يفقهنا في الدين، ويعلمنا التأويل، ويجعل علمنا وعملنا خالصاً لوجهه الكريم إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وبارك وسلم على النذير البشير، والحمد لله رب العالمين.


 


1 معجم الفقهاء 1/131.

2 رواه أبو داود برقم (421)، وأحمد برقم (15882).

3 رواه أبو داود برقم (499)، وابن ماجه برقم (718).

4 الذخيرة 2/50، مواهب الجليل 1/ 453، المجموع 3/ 88، 89، المغني 2/ 90.

5  المجموع 3/ 88-89، مواهب الجليل 1/ 453، المستوعب 2/ 69

6 رواه البخاري برقم (580)، ومسلم برقم (661).

7 فتح الباري (2/115).

8 القادسية : موضع بينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخاً، وبهذا الموضع كانت معركة بين المسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب سنة 16هـ (معجم البلدان للحموي 4/ 331).

9 ذكره البخاري معلقاً في الصحيح، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى.

10 المغني 2/90.

11 المصدر السابق.

12 الفروع 1/279.

13 روضة الطالبين 1/ 206.

14 حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 1/ 312.

15 مغني المحتاج 1/ 140.