من مشاهير المحدثين

من مشاهير المحدثين

 

إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً – صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وحبيبُهُ وخليلُهُ، أَرْسَلَه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، أما بعد:

فإنَّ الله – تعالى – منَّ على هذه الأمة بحفظ دينها من الزيادة والنقص والتبديل فقال – تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}1؛ وليس معنى حفظ الذِكر في هذه الآية هو حفظ ألفاظ القرآن وحْدَه من الضياع والنقص، أوالزيادة والتغيير، بل هو حفظ ألفاظ القرآن وما يبين معانيه.

ولا يخفى أن أهمَّ وأوَّل ما يبينُ القرآنَ هو شيئان:

أولهما: سنةُ النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي أُنزل عليه القرآن.

والثاني: اللسان الذي نزل به القرآن وقت نزوله وهو لسان العرب.

وأما السنةُ فكان شأنها أهم وأعظم، وكان حفظها أعجب وأغرب؛ وذلك لكثرة أعدائها الحاقدين عليها من كل حريص أشد الحرص على إضاعة السنة وتبديلها، أو تحريفها وتأويلها، أو هجرِها وتعطيلها، يعينهم في ذلك كثير من مبتدعة المسلمين وفسّاقِهم وجهلتِهم.

ويأبي الله إلا أن يُتمَّ نورَه، حيث أنشأ – تبارك وتعالى – برحمته وحكمته، لحفظ السنة وشرحها وتبليغها علماءَ عقلاءَ، أتقياءَ أنقياء، متحرّين متبحّرين، متثبتين محتاطين، أئمةً لو وُزنوا في رسوخهم بالجبال لوَزَنُوها، أو طاولوا في منازلهم النجوم لعلََوها، وكانوا حقّاً زينةَ هذه الأمة ومفخرتَها، وورثةَ نبيها – صلى الله عليه وسلم -، وحملةَ أسباب هدايتها، وكذلك شأنهم إلى يوم القيامة، وهم عسكر الرسالة، وجنود البسالة، ظهروا على البدع بكتائب "حدثنا"، وسحقوا الملاحدة بجيوش "أخبرنا"، ولعل من أبرزهم وأشهرهم إمام أهل العلل علي بن المديني الذي ذاع صيته، واشتهر علمه، حتى لقب بحية الوادي من كثرة علمه، وهو علي بنُ عبدِ اللهِ بنِ جعفر بنِ نجيح بنِ بكر بن سعد، هكذا نسبه الخطيب في تاريخ بغداد، وقد خرج حديثه البخاري في صحيحه، وروى عنه فيه ثلاثمائة وثلاثة أحاديث نقل ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، وخرج حديثه أبو داود في سننه، وروى عنه البخاري وأبو داود بدون واسطة، وروى عنه أبو داود أيضاً بواسطة، وخرج حديثه الترمذي والنسائي في سننهما، وابن ماجة في التفسير، ورووا عنه بواسطة.

ومن ثقب فهمه، وجلالة قدره، وقوة علمه؛ أثنى العلماء عليه ثناء عظيماً، وقدروه تقديراً كبيراً لاسيما في حفظه وعلمه، وتبحره وبصره في علل الحديث، بل أثنوا عليه بوجه عام، ومن ثنائهم عليه بوجه عام:

قال أبو حاتم الرازي: "وكان أحمد لا يسمه إنما يكنيه تبجيلاً له"، وقال: "وما سمعت أحمد سماه قط"، وقد بلغ مبلغاً عظيماً حتى قال فيه عباس العنبري: "كان الناس يكتبون قيامه وقعوده، ولباسه وكل شيء يقول ويفعل"، وقال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني"، وقال النسائي: "كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن"، وقال النووي: "وأجمعوا على جلالته وإمامته وبراعته في هذا الشأن، وتقدمه على غيره"، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال: "وأما علي بن المدين فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي، مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه"، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: "ثقة ثبت إمام".

وأما ثنائهم على حفظه فقد قال فيه الذهبي: "حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن"، وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: "الحافظ المبرز"، وقال الخطيب في تاريخه: "هو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدم على حفاظ وقته"، وأما سعة علمه فقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "ابن المديني أعلم الناس"، وقال أبي عبيد القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له".

وأما بصرهُ بعللِ الحديثِ فقد قال أبو حاتم: " كان ابن المديني علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل"، وقال ابن حجر في التقريب: "أعلم أهل عصره بالحديث وعلله"، وقال الذهبي في الميزان: "إليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي"، وقال ابن الأثير في اللباب: "وكان من أعلم أهل زمانه بعلل حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -".

ومن أعلام المحدثين ومشاهيرهم أبو خيثمة زُهيرُ بنُ حربٍ بن شداد الكوفي من رجال الكتب الستة يقال له النسائي نسبة إلى نسأ مدينة بخراسان، وقد روى – رحمه الله – عن كثير من الأئمة، وروى عنه كثير من الأئمة كالبخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود وابن ماجه في سننهما، بل أكثر الإمام مسلم من رواية حديثه في صحيحه حتى بلغ عدد ما رواه عنه فيه ألفاً ومائتين وواحداً وثمانين حديثاً كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب"، بل افتتح مسلم صحيحه بالرواية عنه؛ إذ روى عنه أول حديث في كتاب "الإيمان" من صحيحه، وهو أول كتب الصحيح.

وأما ثناء العلماء عليه فقد اتفق الأئمة على توثيقه، والثناء عليه، ولم يذكروه إلا بخير، قال فيه ابن معين: ثقة، وقال أيضاً: يكفي قبيلةً، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، وقال يعقوب بن شيبة: هو أثبت من أبي بكر بن أبي شيبة، وقال الفريابي: سألت ابن نمير عن أبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة أيهما أحب إليك أبو خيثمة أو أبو بكر؟ فقال: أبو خيثمة، وجعل يطربه، وقال الآجري: قلت لأبي داود: كان أبو خيثمة حجة في الرجال؟ قال: ما كان أحسن حديثه، وقال الحسين بن فهم: ثقة ثبت، وقال أبو بكر الخطيب في تاريخه: كان ثقة ثبتاً، وقال ابن وضاح: ثقة، وقال البغوي: كتبت عنه، وقال ابن قانع: كان ثقة ثبتاً، وقال ابن وضاح: ثقة من الثقات لقيته ببغداد، وقال الذهبي في العبر: الإمام الحافظ رحل وكتب الكثير عن هشيم وطبقته وصنف، وقال في "تذكرة الحفاظ": الحافظ الكبير محدث بغداد، وقال الحافظ في "التقريب": ثقة ثبت.

هنا أحببت الإشارة إلى نموذجين من مشاهير وأعلام المحدثين لعلنا أن نوقظ همتنا، ونستعيد نشاطنا، ونتأسى بهم في طلبهم وحرصهم على العلم والتعليم، وإلا فمشاهير المحدثين لا يحدُّون بحد، ولا يحصَون بعدٍّ؛ إذ من رؤؤسهم إمام الدنيا الإمام البخاري – رحمه الله – الذي صنف الصحيح حتى قال فيه القائل:

صحيح البخاري لو أنصفوه        لما خطَّ إلا بماء الذهب

وأين نحن من الامام مسلم بن الحجاج النيسابوري وغيرهما من مشاهير المحدثين الذين ثمثلوا في نهجهم قول القائل:

أهل الحديث هم أهل النبي وإن             لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

فرحمة الله عليهم ورضوانه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1  سورة الحجر (9).