كتب عليكم الصيام

(كتب عليكم الصيام)

الحمد لله الملك العلام، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، الحمد لله الذي شرع الصيام والقيام، وجعل التقوى هبة لمن صام رمضان حق الصيام، والصلاة والسلام على خير من صلى وصام، وأفضل من قرأ القرآن وبه قام، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه من جميع الأنام، أما بعد:

سنعيش فهذا الدرس مع آيات عظيمات من كتاب الله – عز وجل -، آيات ذكرت ركناً عظيماً من أركان الإسلام ألا وهو ركن الصيام يقول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}1، وسنقف مع بعض الجوانب في هذه الآيات نسأل الله – تعالى – أن يفقهنا في الدين، ويعلمنا التأويل إنه على كل شيء قدير.

معاني الصيام:

جاءت كلمة الصيام على عدة معاني ذكرها الإمام القرطبي – رحمه الله تعالى -: "لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية؛ ذكر أيضاً أنه كتب عليهم الصيام، وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه قال – صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))2، والصوم معناه في اللغة الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت: صوم لأنه إمساك عن الكلام؛ قال الله – تعالى – مخبراً عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}3 أي: سكوتاً عن الكلام، والصوم: ركود الريح؛ وهو إمساكها عن الهبوب، وصامت الدابة على آريها: قامت وثبتت فلم تعتلف، وصام النهار: اعتدل، ومصام الشمس: حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمة                  تحت العجاج وخيلٌ تعلك اللجما

أي: خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة؛ كما قال: كأن الثريا علقت في مصامها أي: هي ثابتة في مواضعها؛ فلا تنتقل، وقوله: والبكرات شرهن الصائمة يعني: التي لا تدور، وقال آمرؤ القيس:

فدعها وسل الهم عنك بجسرة                 ذمول إذا صام النهار وهجرا

أي: أبطأت الشمس عن الانتقال والسير؛ فصارت بالإبطاء كالممسكة، وقال آخر:

حتى إذا صام النهار واعتدل                   وسال للشمس لعاب فنزل

وقال آخر:

نعاماً بوجرة صفر الخدود            ما تطعم النوم إلا صياماً

 أي: قائمة، والشعر في هذا المعنى كثير.

والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات، وعدم الوقوع في المحرمات لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((من لم يدع قول الزور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))4"5.

وحكم الصيام واضح في نصوص القرآن والسنة، وتاركه المنكر له؛ كافر، وغير ذلك يكون مرتكب كبيرة من الكبائر؛ يقول الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى -: "وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر، وإن صامه))6، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما -: ((عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاث: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، وصوم رمضان، فمن ترك واحدة منهن فهو كافر))7 نعوذ بالله من ذلك"8.

ويذكر الله – سبحانه وتعالى – أنه شرع لنا صوم رمضان كما شرعه على أمم من قبلنا؛ فأصل الصوم هو عندنا وعندهم؛ لكن عين الصيام وكيفيته، وتفاصيله؛ تختلف، فصيامنا مختف عن صيامهم قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "والتشبيه إنما هو في أصل الصوم؛ لا في عينه، وقدره، وكيفيته"9.

ولم يفرض الصوم في أول الإسلام؛ بل كان فرضه على التدرج، فهو على مراحل ذكرها ابن القيم – رحمه الله تعالى – في (زاد المعاد) إذ يقول: "تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة؛ لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن؛ فنقلت إليه بالتدريج، وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد صام تسع رمضانات، وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام؛ فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا، وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك؛ فإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم؛ فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض؛ وإنما كان مع الصحة؛ فجبر بإطعام المسكين؛ كفطر الصحيح في أول الإسلام، وكان للصوم رتبٌ ثلاثٌ: أحداها: إيجابه بوصف التخيير، والثانية: تحتمه؛ لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة: وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة"10.

فرض على الذين من قبلنا: "يعني الأنبياء، والأمم من لدن آدم – عليه السلام -، وفيه توكيد للحكم، وترغيب في الفعل، وتطييب على النفس"11، وقد ذكر العلماء علل وحكم في ذكر أنه كان مفروضاً على من قبلنا، ومن ذلك ما ذكره السعدي – رحمه الله تعالى – إذ يقول: "يخبر – تعالى – بما منَّ به على عباده؛ بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة؛ بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصيتم بها"12.

والله – سبحانه وتعالى – شرع لنا الصوم، وجعل فيه الفوائد العظيمة، والثمار اليانعة؛ من ذلك ما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى – في زاد المعاد إذ يقول: "لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوةٍ عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال؛ فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده؛ فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر؛ وذلك حقيقة الصوم.

وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات؛ فهو من أكبر العون على التقوى"13.

ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: "إن الله – سبحانه – يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون، ودفع واستجاشة؛ لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به، وتراض عليه.

ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم – بعد ندائهم ذلك النداء – أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية، والحساسية والخشية من الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}14.

وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم: إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة لله، وإيثاراً لرضاه، والتقوى: هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام {لعلكم تتقون}"15.

إلى هنا نصل إلى ختام ما أردنا أن نقف عليه في هذه الآية العظيمة من كتاب الله – عز وجل -، ونسأله – سبحانه – أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلي اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 سورة البقرة (183).

2 البخاري (7).

3 سورة مريم (26).

4 البخاري (1903).

5 تفسير القرطبي (2/272-273).

6 الكلام لأبي هريرة وقد رفعه، ذكره البخاري (2/682).

7 ذكره بلفظ مقارب أبو يعلى في مسنده (4/236)، وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة (94).

8 الكبائر للذهبي (1/37).

9 جلاء الأفهام (1/284).

10 زاد المعاد (2/27).

11 تفسير البيضاوي (1/461).

12 تفسير السعدي (1/86).

13 زاد المعاد (2/27).

14 سورة البقرة (183).

15 في ظلال القرآن سورة البقرة آية (183).