دموع من أركان المسجد

 

 

 

 

دموع من أركان المسجد

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي كتب على عباده أن يعبدوه، وعلى الخلق أن يوحدوه، أنزل الفرائض على العباد رحمة لهم وأمناً، وتمحيصاً لهم وامتحاناً، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

أيها المسلمون الكرام: لقد فرض الله على هذه الأمة – رحمة بهم – خمس صلوات في اليوم والليلة، يطمئنون فيها، ويعالجون بها أرواحهم، ويخضعون فيها لربهم، ويعلنون فقرهم إليه سبحانه، وعلى هذه الحالة كان السابقون الأولون من المؤمنين والمؤمنات، يحافظون على شروطها وأركانها وواجباتها، ويداومون على أدائها في أوقاتها، ويوصي بعضهم بعضاً بها، ويعزي بعضهم بعضاً إن تأخر عنها يوماً، أو نام عنها.

لكن في هذه الأزمنة المتأخرة تباعد الناس عن دينهم حتى ظننا أن الآية الكريمة {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}1 تتكلم عنهم، خلفٌ لم يقيموا للصلاة قدراً، فهم لا يصلون إلا قليلاً، وإن صلوا لا يسبغون لها وضوءاً، ولا يحفظون لها وقتاً قد كتبه الله لها، ولا يخشعون فيها، ولا يطمئنون إليها، فيا ويل هؤلاء :{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}2 وإنها والله ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، بل هذه الأرض تحمل عاطفة، فإذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء،وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا فقد قال الله – تعالى – عنهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}3 قال ابن تيمية – رحمه الله -: “ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي   في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضاً يقول: ((اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدواً))45.

فيا أخي الكريم: أين أنت عن صلاة الجماعة، وأين أنت عن المسجد؟ ألا تسمع نداء ربك كل يوم: “حي على الصلاة، حي على الفلاح”، ولمن بُنيت بيوت الله – تعالى -؟ أين عقلك؟ ألا تفكر أن الله خلقك في هذه الدنيا لهدف سام، ومقصد نبيل؟

لقد كرَّمك الله وفضَّلك، ورفع من شأنك أيها المسلم؛ فلماذا ترفض تكريم الله لك؟ لماذا تريد أن تعيش حيواناً يأكل ويشرب ويتمتع؟

إن بيوت الله تشكو من الهجران، وتعاني من كثير من المسلمين العصيان، “حي الصلاة، حي على الفلاح” ولا يجيبه إلا القليل – ولا حول ولا قوة إلا بالله -.

وجلجلة الأذان بكل حـيٍ    ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ   ومسجدكم من العبَّاد خالي

لم تعلم يا من هجرت المسجد، وقطعت الصلاة، وأعرضت عن الله وعبادته، ألم تعلم ما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر))6؟!

يا إلهي.. إنه الكفر يا قاطع الصلاة، ويعني ذلك أنك لم تعد أخاً للنبي  ، ولا أخاً للمسلمين، فلا تقبر في مقابرهم، ولا يصلون عليك إذا متَّ، ولا تدفن في مقابرهم!! وإنها والله داهية عظيمة، ومسألة خطيرة أن تترك الصلاة، إنها كارثة عظيمة أن تهجر بيت ربك، وتنام عن حقه، وتضيع أمره، وتتجاوز حدوده، والله إنها مصيبة عظيمة، فوالله لأن يكون الرجل أعمى أصم أبكم، فقير مدفوع على الأبواب، أو مرميٌ في الشعاب؛ وهو يصلي على استطاعته، خير عند الله وأحب وأحسن وأكمل ممن يملك العقارات والسيارات والقرارات، وينعم بالصحة والعافية والسلامة في هذه الدنيا؛ ثم هو لا يصلي.

“يمر عمرو بن العاص   بالمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: لم فعلت ذلك؟ قال: تذكرت قول الله – تعالى -: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}7، وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها”8، و”عن المسور بن مخرمة أن عمر بن الخطاب  إذ طُعِنَ؛ دخل عليه هو وابن عباس  ، فلما أصبح من غد فزعوه، فقالوا: الصلاة، ففزع، فقال: نعم لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى والجرح يثعب دماً”9.

وختمت عمرك بالصلاة فحبذا  عملٌ كريم سعيه وختام

قال ابن مسعود : “لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشى بين رجلين حتى يأتي الصلاة”10.

أيها المسلمون: ولما أدرك قادة الإسلام أهمية الصلاة، وأنها من أعظم أسباب النصر والتمكين؛ كانوا يحثون جيوشهم على أدائها، والمحافظة عليها، فكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – يقول لهم: “إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع”11.

“وفي يوم الأحد 18 جمادى الأولى وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع، وتطهير النفوس، والتقرب إلى الله – تعالى – بالصلاة، وعموم الطاعات، والتذلل والدعاء بين  يديه؛ لعل الله أن ييسر لهم الفتح، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين”12.

بل لقد كان   يستعين بالصلاة لتفريج همومه، وقضاء حوائجه كما روى حذيفة   قال: ((كان النبي   إذا حزبه أمر صلى))13، وكانت قرَّة عينه  ، يرتاح فيها ويطمئن.

“معاشر المسلمين: إن الصلاة غذاء القلوب، وزاد الأرواح، مناجاةٌ ودعاء، خضوعٌ وثناء، تذللٌ وبكاء، وتوسلٌ ورجاء، واعتصامٌ والتجاء، وتواضعٌ لكبرياء الله، وخضوعٌ لعظمته، وانطراحٌ بين يديه، وانكسارٌ وافتقارٌ إليه، تذللٌ وعبودية، تقربٌ وخشوع لجناب الربوبية والألوهية، إنها ملجأ المسلم، وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي، والغذاء الوافي، إنها خير عُدةٍ وسلاح، وأفضل جُنة وكفاح،

وأعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تُنشئ في النفوس، وتُذْكي في الضمائر قوةً روحيةً، وإيماناً راسخاً، ويقيناً عميقاً، ونوراً يبدد ظلمات الفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن، وكم فيها من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثيرٌ ممن يؤديها، فما أعظم الأجر، وأوفر الحظ لِمَن أداها على الوجه الشرعي!

فقد أخرج الإمام أبو داود في سننه: أن رسول الله   قال: ((خمس صلواتٍ افترضهن الله ​​​​​​​ ، مَن أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان على الله عهدٌ أن يغفر له))1415، وعن أبي أمامة  : أن رسول الله   قال: ((صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين))16، وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله  : ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر))17.

وعن أنس بن مالك   قال: قال رسول الله  : ((إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها))18 أي ذنوبكم وسيئاتكم، فأطفئوها بالصلاة، فإن للذنوب حرارة وتوقد لا تُطفأ إلا بالعبادة، وأعظمها الصلاة، ولهذا كان يقول   في دعاء الاستفتاح: ((اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد))19، وعن عبد الله بن مسعود   قال: قال رسول الله  : ((تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا))20{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }21

قال ابن رجب – رحمه الله -: “ولما كانَت الصلاة صلة بين العبد وربه، وكان المصلي يناجي ربه، وربه يقربه منه؛لم يصلح للدخول في الصلاة إلا من كان طاهراً في ظاهره وباطنه؛ ولذلك شرع للمصلي أن يتطهر بالماء فيُكفّر ذنوبه بالوضوء، ثم يمشي إلى المساجد فيُكفّر ذنوبه بالمشي، فإن بقي من ذنوبه شيء كَفّرته الصلاة قال سلمان الفارسي: “الوضوء يُكفّر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يُكفّر أكثر من ذلك،والصلاة تُكفّر أكثر من ذلك”22.

فأين نحن أيها المسلمون عن هذه الأجور الهائلة، والجوائز العظيمة، والمقامات الرفيعة؟ أجور عظيمة على ركن من أركان الإسلام قد لا يستغرق منك أيها المسلم أكثر من نصف ساعة! فهيا أيها المسلم إلى المسجد، هيا إلى مغفرة من ربك ورحمة، هيا إلى الراحة والسعادة، هيا افتح صفحة بيضاء مع ربك، وعاهده على أن تحافظ على صلاتك وعبادتك، واندم على ما فات فالندم توبة، وربك قريب رحيم ودود، يقبل التوبة ويعفو عن الزلة، ويُقيل العثرة، ويزيد الذين اهتدوا هدى، فيا أيها المؤمنون {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}23، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}24، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة مريم (59).

2 سورة الزلزلة (1-5).

3 سورة الدخان (29).

4 ابن ماجة برقم (2974)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لابن ماجة.

5 مجموع الفتاوى (الباز المعدلة)(28/261).

6 رواه ابن ماجة برقم (1079)، وصححه الألباني.

7 سورة سبأ (54).

8 17خطبة للمشايخ (2/7) الشاملة (3).

9 تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/892).

10 مسلم برقم (1519).

11 مجموع الفتاوى (مجمع الملك فهد) (164/5)، والصلاة وأحكام تاركها لابن القيم (2/9).

12 الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط (1/142).

13 الترمذي في سننه برقم (1321)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (8832).

14 أبو داود برقم (425)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود بنفس الرقم.

15 خطب للشيخ عبد الرحمن السديس (29/3).

16 أبو داود برقم (1288)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1166).

17 الطبراني في الكبير برقم (262)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7317).

18 الطبراني في الأوسط برقم (9452)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب عن هذا الحديث تحت رقم (358) حسن لغيره.

19 البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (1382).

20 الطبراني في الصغير برقم (121)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (357).

21 سورة البقرة (45).

22 فتح الباري لابن رجب (4/344).

23 سورة البقرة (153).

24 سورة الحج (78).