فوائد من قصة حاطب

فوائد من قصة حاطب

الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:

فقد روى البخاري في صحيحه1 عن علي – رضي الله عنه – قال: "بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنا والزبير والمقداد فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها))، قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: "لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب"، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا فيه: "من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((يا حاطب ما هذا؟)) قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنه قد صدقكم))، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: ((إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))، فأنزل الله السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}2.

إنها حادثة غريبة في تاريخ الإسلام، حدثت بأمر الله لتعطي دفقاً جديداً من التجربة لهذا الجيل الناشئ، ولترسم لهم قواعد في الدعوة يعتمدونها بعد أن يغادر عنهم قائدهم – صلى الله عليه وسلم -، ولتكون دروساً لمن بعدهم من أجيال الدعاة؛ يستنيرون بها في طريقهم اللاهب، ومن أهم الفوائد المستقاة من هذه الحادثة:

الفائدة الأولى: كل ابن آدم خطَّاء:

إن الخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه يسمى في قوانين العالم الآن بالخيانة العظمى، والتي يكون عقابها الإعدام، فإن به كشف لأسرار لو وصلت إلى الأعداء ربما أحدثت كارثة ومجزرة للصحابة لا يعلم حجمها إلا الله – سبحانه وتعالى -، ولكن الله سلم.

وهذا الصحابي الجليل ليس من عوام الصحابة، بل هو من خاصتهم، ومن أولي الفضل منهم، ومن الذين كانوا يستشارون في عظائم الأمور، إنه من أهل بدر، ويكفي هذا شرفاً، والصحابة بمجموعهم خير القرون بنص قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ومع كل هذا يخطئ واحد من أفضلهم هذا الخطأ الفادح، ذلك ليُعَلِّم الله – سبحانه وتعالى – عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ، حتى وإن كانوا من خيرة خلق الله، وأن الإيمان كما عرَّفه علماء السلف – رضي الله عنهم -: "يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي"، فما من إنسان إلا ويتعرض إلى فترات من الضعف تمر عليه في حياته لأي سبب من الأسباب المضعفة للإيمان، ولهذا قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطاءين التوابون))3.

فما من بني آدم أحد إلا وهو معرض للخطأ، إلا أن الرسل عصمهم الله، وخطأ هؤلاء القمم من الصحابة رحمة، حتى لا يأتي مَنْ بعدهم، ويضع لهم هالة من التقديس والتقدير الذي لا يليق إلا بمقام الألوهية كما فعل النصارى، وكما تفعل باقي الملل المنحرفة بصالحيهم، وهذه النظرة المهمة لا يدركها الكثير من المسلمين، فهم ينظرون إلى القدوات من المتدينين على أنهم معصومون من الخطأ، حتى إذا ما أخطأ أحدهم يوماً من الأيام لضعف أصابه؛ فإنهم يستعظمون ذلك، ولا يلتمسون له عذراً، بل إنه يسقط من أعينهم، وربما يعامل معاملةً قاسية حتى بعد توبته وإصلاح شأنه، وليس هذا مبرراً لخطأ من يخطئ؛ بل هو إدراك الحقيقة، ولابد أن يكون هناك فرق بين من يخطئ ويصرُّ على خطئه، وبين من يخطئ ويشعر بخطئه، ويندم عليه، ثم يصلح من نفسه، لهذا ذكر الله – تعالى – في صفات المتقين الذين وعدهم بجنة عرضها السماوات والأرض بأنهم: {الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}4، ولكن الصنف الذين أخطئوا وأصروا على خطئهم، ولم يعترفوا ولم يندموا؛ أنزل الله – سبحانه وتعالى – آيات تعريهم وتكشفهم، بل أنزل سورة كاملة كسورة المنافقين لتفضحهم، وتبشرهم بمأواهم في جهنم، وطردهم من رحمة الله.

الفائدة الثانية: التريث قبل إصدار الحكم:

فالرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذه الحادثة لم يتعجل إصدارَ الحكم مع أنه أوحي إليه بذلك الأمر، ولم يتأثر بحماسة بعض أصحابه الذين طالبوا بقتل ذلك الصحابي، واتهموه بالنفاق، وإنما اتخذ بعض الخطوات قبل استصدار الحكم، فأرسل اثنين من الصحابة لتلك المرأة ليطَّلع على طبيعة الأمر، ولما استلم الكتاب ورأى ما فيه ناداه مستفسراً عن سبب فعلته تلك من دون غضب أو انفعال، بل ناداه باسمه ((يا حاطب ما هذا؟))، ولما سمع منه عذره عَلِمَ صدق حديثه فعفا عنه، وقد أنزل الله – تعالى – بعد ذلك ما يؤكد إيمانه بقوله – تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}5.

الفائدة الثالثة: إعانة الضعيف وإقالة عثرته:

ولما علمنا بأن كل ابن آدم خطَّاء، وعرفنا بأن الخطَّاءِين على صنفين: أحدهما: المُصِرُّ على الخطأ، والمتمادي فيه، والآخر: هو المعترف بالخطأ، والنادم على فعلته، فإنه لابد من التركيز على الصنف الثاني وهو المعترف بذنبه، والنادم عليه خطئه، إذ إنه من الخطأ الجسيم في العمل التربوي أن يعامل كما يعامل الصنف الأول، والذي يتحول مع الزمن إلى عائق من عوائق الدعوة، بل ربما عدو من أعدائها، لكن من الحكمة أن يعامل معاملة فيها الكثير من رحابة الصدر والحلم، والعمل على إعانته على النهوض من كبوته التي كباها، وإقالة عثرته بكل ما نملك من وسائل، وذلك بذكر إيجابياته، والخير الذي قدمه، ولا نشعره بأن نظرتنا له قد تغيرت عما كانت عليه في السابق، أو نعامله معاملة تختلف عما كانت عليه قبل عثرته.

إن هذا العلاج السلبي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى نتائج سلبية أقلها أن يخرج من إطار الخير، وينطوي على نفسه، وأكثرها أن يتحول إلى عدو من أعداء الدعوة يعمل جهده من أجل عرقلتها، وبين هاتين النتيجتين نتائج كثيرة جميعها ليست في صالح الدعوة، لهذا كله عرف الرسول – صلى الله عليه وسلم – كيف يتعامل مع هذا الصنف من الناس، وقال لأصحابه المقربين وهم يستمعون إلى تقريره، وربما توقعوا أن يصدر فيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أشد العقوبات: ((أما إنه قد صدقكم)).

الفائدة الرابعة: ميزان تقويم الرجال:

إن من الظلم والطيش أن يُقَوَّم الرجال بحادثة واحدة مهما كانت هذه الحادثة، ويُتركُ الماضي الزاخر بالحوادث والمواقف، فالكم والكيف عنصران ضروريان في عملية التقويم، فكم قدم وماذا قدم؟

والعنصر الأول معناه السابقة، فالمهاجرون ليسوا كالأنصار، وأهل بدر ليسوا كأهل أحد، ومن آمن قبل الفتح ليس كمن آمن بعده، والصحابة – رضي الله عنهم – ليسوا كالتابعين، ومن انضم لقافلة الدعوة أيام اضطهادها ومضايقتها ليسوا كمن انضم إليها بعد أن آل إليهم الزمام والسلطان، فالسابقة لها تأثيرها بلا ريب في عملية التقويم.

والعنصر الثاني: هو نوعية العمل الذي قدمه في سبيل الله، فالجهاد بالنفس ليس كالجهاد بالمال، والشهادة ليست كأي موت آخر، والحياء ليس كإماطة الأذى عن الطريق، والذي يطعم الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً؛ ليس كمن يطعم الطعام وهو بغير حاجة له لكثرته، وهذا ما نظر إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو يقضي بهذه الحادثة، فعلم صدق إيمانه عندما قال: "لم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام" فقال: ((أما إنه قد صدقكم))، ونظر في سابقته عندما طلب منه عمر – رضي الله عنه – قتله؛ فقال له: ((إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).

الفائدة الخامسة: التأدب مع القيادة:

فرأي القيادة ليس كرأي الأفراد، فهي تنظر نظرة شمولية، بينما الأفراد ينظرون نظرة جزئية، إنها في قمة الهرم، وترى كل ما يحيط بالهرم، وما يبعد عنه، ولكن الأفراد في أدنى الهرم قرب قاعدته ينظرون إلى ما جاورهم، والقريب منهم، لذلك فإن نظرتهم محدودة، ومن هذا المنطلق لابد للأفراد أن لا يقيسوا نظراتهم وآراءهم بما يقيسون به آراء ونظرات القيادة، فللقيادة وزن يختلف عن وزن الجنود، وإن كانت القيادة كبشر معرضة للخطأ، فبشريتهم لا تعني دنو نظراتهم وتقويمهم، ومساواتها بنظرات وآراء وتقويم الأفراد.

وفي هذه الحادثة يتجلى أدب الفرد مع القيادة فعمر – رضي الله عنه – الفرد يقترح على الرسول – صلى الله عليه وسلم – القائد قتلَ حاطب، وله ما يبرر هذا الطلب، ولكن القائد يرد عليه بأنه من أهل بدر، وفي هذا الرد ما فيه من معاني يفهمها جيداً عمر – رضي الله عنه -، فما أن سمع هذه الإجابة من قائده حتى سكت دون أن يردد كلمة واحدة، أو أن يجادل في رأيه، ويصر عليه، أو يخرج غاضباً لرد اقتراحه مع ما في اقتراحه من وجاهة، كما لم ينقل في الروايات جميعها أي رد ممن لم يشاورهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – في شأن سيره، ولا سمعنا أحداً منهم يقول: "هاهو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به"، فلم يرد من هذا شيء، مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم.

الفائدة السادسة: كفاية الله للمجاهدين في سبيله:

إن في كفاية الله للمجاهدين في سبيله لآيات لأولي الألباب، فعلى مرِّ العصور يحار المرء في قَدَرِ الله العجيب كيف يحمي دعوته، ويكفي من يدعو في سبيله، كيف ينقذ نوحاً – عليه السلام – ومن آمن معه في سفينة، ويغرق كل من على الأرض في طوفان لم يتكرر مثله في تاريخ البشرية؟ وكيف أنقذ إبراهيم وهو يلقى في النار التي من طبيعتها الإحراق، فيوقف فيها هذه الخاصية لتكون نجاته آية من الآيات، لتظهر بعد ذلك دعوة التوحيد رغم أنف النمرود ومن شاكله من طواغيت ذلك الزمان.

وكيف أنقذ موسى ومن آمن معه من فرعون وجنوده، وأطبق عليهم البحر، ليستمر بعد ذلك موسى – عليه السلام – ويموت فرعون ومن تبعه؟ وكيف أنقذ عيسى – عليه السلام – من مؤامرة الاغتيال ورفعه إليه؟

ثم يأتي محمد – صلى الله عليه وسلم – لتكون في حياته أعاجيب الكفاية الربانية لمن تبع هذا الدين، وما حادثة حاطب – رضي الله عنه – إلا واحدة من الكثير من الحوادث التي حفظ الله بها أولياءه الصالحين في فترة الرسالة الخاتمة، وعندما عجز البشر كبشر أن يكتشفوا هذا الأمر – بخاصة أن مصدره فوق الشبهات -؛ لم يترك الله عبيده المجاهدين في سبيله ليقعوا فريسة سهلة لقساة القلوب والأكباد من البشر، فأرسل جبريل ليخبر رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالأمر، وليكون درساً يضاف إلى الدروس الكثيرة من قبل بأن النصر إنما يكون من الله، وليس من البشر، وأن الحافظ هو الله سبحانه وحده، وما الخطط والتدبير، والتخطيط والسلاح، والإعداد؛ إلا أسباباً لا تنفع بذاتها دون المسبب للنصر وهو الله – سبحانه وتعالى -، وليستمر رنين الآيات الكريمة في أذن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفي أذن وقلب كل داعية من بعده: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}6؛ حتى لا تبقى في نفوس الدعاة إلى الله وهم يتحركون في سبيل نصرة دينه أي خلجة من خوف، أو تردد ما داموا تحت كنف الله – سبحانه – وفي كفايته، وحتى إن ماتوا أو استشهدوا فإن شهادتهم نصر في ميزان السماء.

هذه إشارات إلى أهم الفوائد من قصة حاطب، أشرنا إليها للعبرة والعظة، والنظر والاستفادة، والعلم والمعرفة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (3007).

2 سورة الممتحنة (1).

3 رواه الترمذي برقم (2499)، وقال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم (4515) في صحيح الجامع.

4  آل عمران (135).

5 الأنفال (27).

6 الأنفال (17).