آداب طالب العلم

 

 

آداب طالب العلم

الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم, والصلاة والسلام على معلم البشرية، ورسول رب البرية صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

إن طلب العلم من أفضل العبادات التي يتقرب بها إلى الله – عز وجل -, ولذلك كان لزاماً على طالبه أن يلتزم جملة من الآداب حتى يفوز برضا الله – تبارك وتعالى -, وسنذكر جملة من الآداب وهي كالتالي:

أولاً: الإخلاص – لله عز وجل -: فالإخلاص شرط أساسي في قبول الأعمال, وهو العمل لله وحده لا شريك له، لا لشيء آخرسواه، فإذا كان العمل غير مخلص لله فإنه لا يقبله, قال الجنيد كما في الرسالة القشيرية: “الإخلاص سرٌّ بين الله – تعالى – وبين العبد، لا يعلمه مَلكٌ فيكتبه،ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله”، وقال بعضهم: “الذي لا يريد صاحبه عليهِ عوضاً من الدارين، ولا حظاً من الملكين”1.

والأدلة على وجوب الإخلاص كثيرةً جداً منها قوله – تعالى –: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}2, وقوله: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَفَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}3, وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءوَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}4 وغيرها من الآيات، وقول النبي   كما في البخاري من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها؛فهجرته إلى ما هاجر إليه))5, وجاء الوعيد ممن عَمِلَ لغير الله – عز وجل – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((من تعلم علماًمما يبتغى به وجه الله – عز وجل – لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجدعرف الجنة يوم القيامة))6, فعليه أن يخلص النية لله – تعالى -، وعليه أن يجتنب  المفاخرة, والمباهاة به, وأن لا يكون قصده في طلب العلم؛ الشهرة, واتخاذ الأتباع, وحب الظهور؛ فالوعيد شديد،وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة الذي تعلم ليقال عنه “عالم”, وتعلم القرآن ليقال عنه “قارئ” كما صح ذلك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –7.

ثانياً: تقوى الله – عز وجل -: فإن التقوى سبب نيل العلم وتحصيله قال الله – تبارك وتعالى -: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}8, وهي سبب لتيسير أمور الإنسان قال الله – تعالى -: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}9، وقال: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}10.

ثالثاً: الحرص على الوقت: فالوقت هو الحياة, والوقت أنفاس لا تعود, وطالب العلم من أشد الناس حرصاً على الاستفادة من وقته حفظاً ومطالعة ومراجعة, ولقد كان النبي من أشد الناس حرصاً على وقته، وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله – تعالى -، أو فيما لا بد منه لصلاح نفسه، يقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يصف حال النبي  : “كان إذا أوى إلى منزله جزّأ نفسه دخوله ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لأهله، وجزءلنفسه، ثم جزأ جُزأه بينه وبين الناس”11، وقال ابن أبى نصر الحافظ – رحمه الله تعالى -:

الفقه في الدين بالآثار مقترن   فاشغل زمانك في فقه وفى أثر
فالشغل بالفقه والآثار مرتفع   بقاصد الله فوق الشمس والقمر12

رابعاً: الصبر على طلب العلم: طلب العلم شاق على النفس وذلك لأن النفس عادة تحب الراحة, ولقد ضرب العلماء الأفذاذ أروع الأمثلة في الصبر على طلب العلم, وقاسوا من أجله مرارة الجوع, ومشقة الرحلة في طلبه حتى أنه يروى عن أبي يوسف أنه قال: “العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض على غرر”13، وقال – تعالى –: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}14، فإذا أعطاه الإنسان كله نال بعضه؛ فكيف بمن يعطيه بعضه؟ وقد قال الشاعر:

قـد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الغبش تعتام القتب
جــرع النفس على تحصيله مضـض المرين ذل وسغب
لا يهاب الشوك قطاف الجنى     وإبار النحل مشتار الضرب15

وقال يحيى بن أبي كثير – رحمه الله -: “لا يستطاع العلم براحة الجسم16“، ومما ينسب إلى الإمام الشافعي – رحمه الله -:

سأطلب علماً أو أموت ببـــلدة   يقل بها هطل الدموع على قبري
وليس اكتساب العلم يا نفس فاعلمي بميــراث آباء كرام ولا صهر
ولكن فتى الفتيان من راح واغتـدى   ليطلب علمــاً بالتجلد والصبر
فإن نال علماً عاش في الناس مـاجداً وإن مات قال الناس بالغ في العذر
إذا هجع النوام أسبـــلت عبرتي   وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعر
أليس من الخسران أن ليــــالياً تمر بلا علم وتحسب من عمـري17.

خامساً: أخذ العلم عن العلماء الراسخين: إن العلماء هم ورثة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام -، وقد رفع الله شأنهم فقال الله – عز وجل -: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}18، فقرن شهادتهم بشهادة – سبحانه وتعالى – وقال: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}19, ولذلك يجب أخذ العلم عن العلماء الراسخين, وحذر السلف – رحمهم الله تعالى – عن الأخذ من الأصاغر والمتعالمين فروي عن محمد بن سيرين – رحمه الله – أنه قال: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم20“, وقال: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”21, والآثار في ذلك كثيرة جداً.

وقال عمر بن الخطاب – رضي اللهُ عنه -: “إن أصدق القيل قيل الله، ألا وإن أحسن الهدي هدي محمد – صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة، ألا وإن الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، ولم يقم الصغير على الكبير، فإذا قام الصغير على الكبير فقد (أي: فقد هلكوا)22“، وقال عبد الله بن مسعود – رضي اللهُ عنه -: “لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم هلكو23“.

فالتتلمذ على الأصاغر وأنصاف العلماء دون الرجوع إلى أهل العلم سبب في الانحراف والضلال – والعياذ بالله -، وقد قيل: “من كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه”، وقال الشاعر:

يظن الغمر أن الكتب تهـدي   أخـا فهـم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيـها غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيــخ   ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليــك حتى تصير أضل من توما الحكيـم24

سادساً: العمل بالعلم: الغاية من طلب العلم هي عبادة الله – تعالى – على علم وبصيرة، والعمل بالعلم هي المقصود من طلبه, وإلا كان وبالاً على صاحبه – والعياذ بالله تعالى -، ولقد عاب الله على اليهود ( أعتقد أنك تقصد على اليهود) في حملهم التوراة، وعدم العمل بها فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}25, وعاب على قومٍ قالوا ما لم يفعلوا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}26.

وتوعد الله – سبحانه – من ترك العمل بالعلم بعقوبة شديدة ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله  يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه – يعنى أمعاءَه –، فيدور بها كما يدور الحمارُ برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه))27.

وقال صاحب الزُبَد:

وعالم بعلمه لم يعمل   معذب من قبل عباد الصنم

وفقنا الله لطاعته ورضاه، والعمل بما علمنا, ونسأله أن يزيدنا علماً وعملاً وتقوى وصلاحاً، والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


 


1 الرسالة القشيرية (1/96).

2 سورة غافر (14).

3 سورة غافر (65).

4 سورة البينة (5).

5 صحيح البخاري برقم (1).

6 أخرجه أبو داوود في سننه برقم (3664)؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (105)؛ وأحمد بن حنبل في المسند برقم (8438) وقال شعيب الأرناؤوط (إسناده حسن).

7 أخرجه النسائي في سننه برقم (3137) ؛ وأحمد بن حنبل في المسند برقم (8260)؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (3777), وفي صحيح الجامع برقم (2014).

8 سورة البقرة (282).

9 سورة الطلاق (4).

10 سورة الليل (5-7).

11 كنز العمال (7/165)؛ وتخريج أحاديث الإحياء (5/ 337), والشمائل للترمذي (1/277)؛ والسيرة لابن حبان (1/410).

12 الإلماع (1/236).

13 الجامع لأخلاق الراوي (2/174).

14 سورة الإسراء (85).

15 أرشيف ملتقى أهل الحديث 4 (1/1707).

16 رواه مسلم في صحيحه موقوفاً برقم (612).

17 غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (4/11).

18 سورة آل عمران (18).

19 سورة فاطر (28).

20 ذكره مسلم في المقدمة (1/12).

21 المصدر السابق.

22 اعتقاد أهل السنة للإمام للالكائي (1/84).

23 المعجم الكبير (9/114) برقم (8589), وحلية الأولياء (8/ 49)؛ والزهد لابن المبارك (1/281).

24 الأبيات من الإنترنت http://www.forsanelhaq.com/showthread.php?t=87014&page=11.

25 سورة الجمعة (5).

26 سورة الصف (2-3).

27 أخرجه البخاري برقم (3267)؛ وأخرجه مسلم برقم (2989).