الإيمان الحي

 

 

الإيمان الحي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

يقول الله – عز وجل -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}1، ويقول الرسول   من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان النبي   بارزاً يوماً للناس، فأتاه جبريل – عيه السلام – فقال: ((ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله،وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث… الحديث))2، ومن خلال هذين النصين يتبين لنا جلياً ما هي أركان الإيمان، وما الأصول التي يقوم عليها، وهذه الأصول هي:

1. الإيمان بالله – تبارك وتعالى -.

2. الإيمان بالملائكة – عليهم السلام -.

3. الإيمان بالكتب السماوية المنزلة.

4. الإيمان بالرسل – صلوات الله عليهم أجمعين -.

5. الإيمان باليوم الآخر، والبعث، والجزاء.

6. الإيمان بالقدر خيره وشره.

فهذه هي أركان الإيمان الستة التي ذكرها الله – تبارك وتعالى – في الآية الكريمة،وذكرها الرسول   في الحديث الشريف، ولا يسمى المؤمن مؤمناً حتى يؤمن بجميع هذه الأمور كلها، وعلى هذا فإن الإيمان هو:

في اللغة: “عبارة عن التصديق والإقرار، قال – تعالى – مخبراً عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا}3 أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي وهو التصديق بالقلب هو الواجب على العبد حقاً لله، وذلك بأن يصدق الرسول   فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله – تعالى -، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين، ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما، وقوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}4 يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة قال – تعالى-: {آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} في مواضع من القرآن”5.

وفي الاصطلاح:

الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو: “تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية”6، فالمعنى: التصديق الجازم، والإقرار الكامل، والاعتراف التام بوجود الله – تعالى -وربوبيته، وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده العبادة، واطمئنان القلب بذلك اطمئناناً تُرى آثاره في سلوك الإنسان، والتزامه بأوامر الله – تعالى -، واجتناب نواهيه، والإيمان الكامل بأركانه الستة المتقدمة، وهذا الإيمان يجب أن يكون حياً في القلب، والنفس، والإيمان الحي هو الذي يحمل صاحبه على استشعار عظمة الله – تبارك وتعالى -، وهو الذي يولد في القلب توبة؛ تحمل صاحبها على اجتناب ما نهى الله – عز وجل – عنه ظاهراً وباطنا، ويبعد العبد عن اقتراف الخطايا.

إن الإيمان الحي هو الذي يصل بصاحبه الحال إلى أن يجعله من الأولويات في حياته, فيتصدر كل ما عداه من حظوظ النفس، وضرورات الحياة والأهل والولد, ويجعل كفته راجحة في القلب إذا ما حدث تعارض بينه وبين شئ من صوارف الحياة وزينتها قال – تعالى -: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}7.

والإيمان الحي هو الذي يولد في الأمة أمثال حارثة بن قيس – رضي الله عنه – “حين مرَّ عليه النبي  فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال:أصبحت مؤمناً بالله حقاً”8.

والإيمان الحي هو الذي يجعل العبد ممتثلاً لحديث النبي  الذي رواه أنس – رضي الله عنه – عن النبي  قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) فلا يؤمن: يفسر هذا النفي رواية أحمد بلفظ (لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير)، وكثيراً ما يأتي هذا النفي لانتفاء بعض واجبات الإيمان وإن بقي أصله، و(لأخيه): في الإسلام، (ما يحب لنفسه): من الخير كما في رواية أحمد المتقدمة، والخير كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدينية والدنيوية”9.

والإيمان الحي هو الذي يظهر في نفس صاحبه علامات حلاوته فقد جاء عن النبي   أنه قال: ((ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))10.

فهذه بعض العلامات التي تدل على أن الإيمان في النفس حي، وخالص لله – تبارك وتعالى-، فمتى وصل المسلمون إلى هذه الحال؛ نستطيع القول أن الأمة تستحق أن ترجع لها مكانتها بين الأمم.

نسأل الله – عز وجل – أن يعيد لهذه الأمة مجدها، وأن يبرم لها أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة البقرة (285).

2 البخاري (50).

3 سورة يوسف (17).

4 سورة النحل (106).

5 شرح الطحاوية (2/288).

6 الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة (1/11).

7 سورة التوبة (24).

8 عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21/223).

9 التحفة الربانية شرح الأربعين النووية.

10 البخاري (16).