النفقة المقبولة

النفقة المقبولة

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحمن، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} سور البقرة(265).

شرح الآية:

"هذا مْثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق؛ فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية: إحداهما طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين، والآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها هل يفعل أم لا، فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده"1، فقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي قصدهم بذلك رضا ربهم والفوز بقربه {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم، فمثل نفقة هؤلاء { كَمَثَلِ جَنَّةٍ} أي كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة { بِرَبْوَةٍ} أي محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس، فـ { أَصَابَهَا} أي تلك الجنة التي بربوة {وَابِلٌ} وهو المطر الغزير { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أي تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي مطر قليل يكفيها لطيب منبتها، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد، ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت همم عزائمه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات، ولهذا قال تعالى: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل، فيجازيه عليه أتم الجزاء..

بعض الفوائد المستفادة من الآية:

1.  أنه لا إنفاق نافع إلا ما كان مملوكاً للإنسان؛ لقوله تعالى: {أَمْوَالَهُمُ} فلو أنفق مال غيره لم يقبل منه إلا أن يكون بإذن من الشارع، أو المالك. فإن قال قائل: عندي مال محرم لكسبه، وأريد أن أتصدق به فهل ينفعني ذلك؟ فالجواب: إن أنفقه للتقرب إلى الله به: لم ينفعه، ولم يسلم من وزر الكسب الخبيث؛ والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)2؛ وإن أراد بالصدقة به التخلص منه، والبراءة من إثمه: نفعه بالسلامة من إثمه، وصار له أجر التوبة منه لا أجر الصدقة. ولو قال قائل: عندي مال اكتسبته من ربا فهل يصح أن أبني به مسجداً، وتصح الصلاة فيه؟ فالجواب: بالنسبة لصحة الصلاة في هذا المسجد هي صحيحة بكل حال؛ وبالنسبة لثواب بناء المسجد: إن قصد التقرب إلى الله بذلك لم يقبل منه، ولم يسلم من إثمه؛ وإن قصد التخلص سلم من الإثم، وأثيب لا ثواب باني المسجد، ولكن ثواب التائب.

2.  بيان ما للنية من تأثير في قبول الأعمال، فإخلاص النية لله شرط لقبول الأعمال؛ لقوله تعالى: {ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ}؛ هذا هو الشرط الأول لبقول العمل: الإخلاص لله، والشرط الثاني: الموافقة لسنة النبي-صلى الله عليه وسلم-، لقوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} سورة الكهف (110).

3.  أن الإنفاق لا يفيد إلا إذا كان على وفق الشريعة؛ لقوله تعالى: {ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} وجه ذلك أن من ابتغى شيئاً فإنه لابد أن يسلك الطريق الموصل إليه؛ ولا طريق يوصل إلى مرضات الله إلا ما كان على وفق شريعته في الكم، والنوع، والصفة؛ كما قال تعالى في الكم: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} سورة الفرقان(67)؛ وقال تعالى في النوع: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} سورة الحـج(34)؛ وفي الصفة قال الله تعالى: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} سورة البقرة(264).

4.  بيان أن تثبيت الإنسان لعمله، واطمئنانه به من أسباب قبوله؛ لقوله تعالى: {وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ}؛ لأن الإنسان الذي لا يعمل إلا كارهاً فيه خصلة من خصال المنافقين؛ كما قال تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} سورة التوبة(54).

5.    فضل الإنفاق على وجه التثبيت من النفس؛ لأنه يندفع بدافع نفسي؛ لا بتوصية من غيره، أو نصيحة.

6.    اختيار المكان الأنفع لمن أراد أن ينشئ بستاناً؛ لقوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}.

7.  بركة آثار المطر؛ لقوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}؛ ولهذا وصف الله المطر بأنه مبارك في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا} سورة ق (9).

8.    أنه إذا كان مكان البستان طيباً فإنه يكفي فيه الماء القليل؛ لقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}.

9.    التحذير من مخالفة الله -عز وجل-؛ لكونه عالماً بما نعمل: {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}3..

والله اعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 طريق الهجرتين(1/546).

2 رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

3 تفسير القرآن العظيم(1/425) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن(3/301) للقرطبي. وتيسير الكريم لابن سعدي، صـ (114)، وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.