الحج على الفور أم على التراخي

الحج على الفور أم على التراخي

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يقول الله – عز وجل -: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}1، ويقول: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}2، وهذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور3، وعن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً…الحديث ))4، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا…الحديث ))5، وكل هذه النصوص تدل على فرضية الحج، وأنه متى وجد الإنسان الاستطاعة وملكها فقد وجب عليه الحج.

وفي الآيتين التي أوردناها سابقاً أمر من الله – تبارك وتعالى – للناس بإتمام الحج، وأنه من استطاع فقد وجب عليه الحج.

وللحج شروط على نوعين هما: شروط وجوب وشروط استطاعة:

فأما شروط الوجوب فهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة، وتخلية الطريق، وإمكان المسير.

وأما شروط الاستطاعة فنوعين: أحدهما: استطاعة مباشرة، وشرطاها: وجود الزاد الذي يكفيه وأوعيته حتى السفرة، وكلفة ذهابه لمكة ورجوعه منها إلى وطنه، ووجود الراحلة الصالحة لمثله بشراء أو استئجار.

والنوع الثاني: استطاعة بغيره، فتجب الإنابة عن الميت غير المرتد الذي عليه نسك؛ من تركته، كما يقضي منها ديونه6.

فهذه هي شروط الحج التي متى توفرت في العبد فقد وجب عليه الحج، إلا أننا نقف مع سادتنا العلماء الذين ذكروا مسألة متعلقة بهذا الموضوع، وحاصل هذه المسألة: "هل الحج واجب على الفور أم أنه واجب على التراخي؟"

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

فالقول الأول: ذهب الإمام الشافعي إلى أنه واجب على التراخي، ولهذا نقل الإمام النووي قوله: "مذهبنا أنه على التراخي، وبه قال الاوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاووس – رضي الله تعالى عنهم -، وقال مالك، وأبو يوسف: هو على الفور وهو قول المزني، وهو قول جمهور أصحاب أبى حنيفة، ولا نص لأبي حنيفة في ذلك، واحتج لهم بقوله – تعالى -: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}7 وهذا أمر، والأمر يقتضى الفور، وبحديث ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ((مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ))8، وبالحديث الآخر: ((من لم يمنعه من الحج حاجة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر؛ فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً))9، ولأنها عبادة تجب الكفارة بإفسادها فوجبت على الفور كالصوم، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد قالوا: ولأنه إذا لزمه الحج وأخره إما أن تقولوا يموت عاصياً، وإما غير عاص"10.

والقول الثاني: ذهب الإمام مالك، وأبو حنيفة إلى أنه يجب على الفور، ولذا جاء في كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ما نصه: "َواخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.11

ونقل الإمام ابن قدامة في كتابه المغني قال مسألة: "فمن فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة، وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج, وأمكنه فعله؛ وجب عليه على الفور, ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال أبو حنيفة, ومالك.

ولنا قول الله – تعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}12، وقوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}13، والأمر على الفور، وروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ) 14، وفي رواية أحمد وابن ماجة: ((فإنه قد يمرض المريض, وتضل الضالة, وتعرض الحاجة))15 قال أحمد: ورواه الثوري, ووكيع عن أبي إسرائيل, عن فضيل بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن أخيه الفضل عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.

وعن علي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله؛ ولم يحج, فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً))16 قال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وفي إسناده مقال، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من مات ولم يحج حجة الإسلام, لم يمنعه مرض حابس, أو سلطان جائر, أو حاجة ظاهرة؛ فليمت على أي حال شاء, يهودياً, أو نصرانياً)) 17، وعن عمر نحوه من قوله، وكذلك عن ابن عمر وابن عباس – رضي الله عنهم -.

ولأنه أحد أركان الإسلام؛ فكان واجباً على الفور كالصيام؛ ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات، ومتى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج؛ وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر, سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط، وبهذا قال الحسن, وطاووس, والشافعي.

وقال أبو حنيفة, ومالك: يسقط بالموت; فإن وصى بها فهي من الثلث، وبهذا قال الشعبي, والنخعي؛ لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة.18

وسئل الشيخ ابن باز – رحمه الله -: هل الحج يجب على الفور أم على التراخي؟

فأجاب: الحج يجب على الفور هذا هو الصواب الذي عليه جمهور أهل العلم، فالحج يجب المبادرة به على الفور إذا كان قادراً ببدنه وماله، أما إذا كان عاجزاً بالمال فلا حج عليه, أو عاجزاً بالبدن لمرض يؤجل حتى يشفى، أما القادر بماله وبدنه فإن الواجب عليه البدار بحجه, والمسارعة إليه لقول الله – سبحانه -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}19، ولله على الناس يعني واجب لله على الناس، فالواجب البدار بذلك، فإن لم يستطع ببدنه لكبر سنه، أو مرض لا يرجى برؤه؛ فإنه يجب أن يستنيب من الثقات الطيبين من يحج عنه ممن قد حج عن نفسه، النائب لا بد يكون قد حج عن نفسه سواءً كان رجلاً أو امرأة, وهكذا العاجز لكبر السن كأن يكون كبير السن لا يستطيع يستنيب.

وسئل أيضاً: بعض الناس يتشاغل بأمور عن الحج، فقد يتشاغل ببناء مسكن، ويتشاغل بالزواج أو بشراء السيارة، وما أشبه ذلك هل من كلمة؟

فأجاب: لا يجوز للمؤمن أن يتشاغل عن الحج، الواجب من استطاع الحج فالواجب عليه البدار بالحج، ولا يجوز التشاغل ببناء مسكن, أو بشراء مزرعة، أو ما أشبه ذلك، أما الزواج فله شأن آخر إذا احتاج لزواج وخاف على نفسه يبدأ بالزواج؛ لأنه من النفقة اللازمة، فإذا احتاج الزواج وخاف على نفسه من تأخير الزواج يبدأ به قبل الحج ثم يحج بعد ذلك, أما إذا كان لا يخشى فإنه يبدأ بالحج.

ولا يجوز له التساهل، عليه التوبة إلى الله من تأخيره، وعليه المبادرة بالحج. 20

ولاشك أن المسارعة إلى أداء العبادة أولى وأفضل {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}21 لأن الإنسان لا يعرف هل يعيش إلى العام المقبل كي يؤخر الحج حال استطاعته.

نسأل الله – تعالى – أن يوفقنا إلى سواء السبيل، وأن يشرح صدورنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة البقرة (196).

2 سورة آل عمران (97).

3 تفسير ابن كثير (ج2/ص81).

4 صحيح مسلم (9).

5 صحيح مسلم (2380).

6 الإقناع (ج1/231-232).

7 سورة البقرة (196).

8 أبو داود (1472)، وهو في صحيح وضعيف الجامع الصغير (ج22/ص448)، وقال الألباني: حسن.

9 سنن الدارمي (1719)، ومشكاة المصابيح (ج2/ص70)، وقال الألباني: ضعيف.

10 المجموع (ج7/ص103).

11 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (ج4/ص346).

12 سورة آل عمران (97).

13 سورة البقرة (196).

14 سبق تخريجه برقم (8).

15 ابن ماجة (2874)، وهو في صحيح وضعيف سنن ابن ماجة (ج6/ص383) وقال الألباني: حسن.

16 الترمذي (740)، وفي صحيح وضعيف سنن الترمذي (ج2/ ص312)  وهو ضعيف.

17 سنن الدارمي (1719)، ومشكاة المصابيح (ج2/ص70)، وهو: ضعيف.

18 المغني (ج6/ص307).

19 سورة آل عمران (97).

21 سورة آل عمران (133).