حج أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها –

حج أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها –

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فقد اختلف أهل العلم في حج أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – اختلافاً كثيراً، وتباينوا في استنباط المسائل الفقهية منه تبايناً شديداً، حتى عد حجها – رضي الله عنها – مرجعاً لكثير من المسائل؛ يخرج عليه الفقهاء، ويستدلون بتفاصيله، وللفائدة فإننا سنتطرق في درسنا هذا إلى حجها، وخلاف الفقهاء فيه، مرجحين ما أسعفه الدليل، آملين من الله القبول والتوفيق.

أولاً: بم أحرمت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -؟

اختلف الناس فيما أحرمت به عائشة على قولين:

أحدهما: أنه عمرة مفردة وهذا هو الصواب، وفي  الصحيح عنها قالت: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة))1 قالت: "وكان من القوم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بالحج، قالت: "فكنت أنا ممن أهل بعمرة" وذكرت الحديث، وقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: ((دعي العمرة، وأهلي بالحج))2 قاله لها بسرف قريباً من مكة، وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة.

القول الثاني:  أنها أحرمت أولاً بالحج وكانت مفردة، قال ابن عبد البر: روى القاسم بن محمد، والأسود بن يزيد، وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة، من ذلك حديث عمرة عنها: "خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا نرى إلا أنه الحج"، وحديث الأسود بن يزيد مثله، وحديث القاسم "لبينا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحج" قال: وغلطوا عروة في قوله عنها: "كنت فيمن أهل بعمرة"، قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء يعني الأسود والقاسم وعمرة على الروايات التي ذكرنا، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط، قال: ويشبه أن يكون الغلط إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت، وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي، فأمرها النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تترك الطواف، وتمضي على الحج، فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة، وأنها تركت عمرتها، وابتدأت بالحج، قال أبو عمر: وقد روى جابر بن عبد الله أنها كانت مهلَّة بعمرة، كما روى عنها عروة، قالوا: والغلط الذي دخل على عروة إنما كان في قوله: انقضي رأسك، وامتشطي، ودعي العمرة، وأهلي بالحج.

وروى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه حدثني غير واحد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لها:  ((دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج))3، فبين حماد أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة قال ابن القيم – رحمه الله -: "من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها، ولا مطعن فيها، ولا تحتمل تأويلاً البتة؛ بلفظ مجمل ليس ظاهراً في أنها كانت مفردة، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة قولها: "خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا نرى إلا أنه الحج" فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج، بل خرج للحج متمتعاً، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول خرجت لغسل الجنابة؟ وصدقت أم المؤمنين – رضي الله عنها – إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره – صلى الله عليه وسلم -، وكلامها يصدق بعضه بعضاً، وأما قولها: "لبينا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحج فقد قال جابر عنها في "الصحيحين": إنها أهلت بعمرة، وكذلك قال طاووس عنها في "صحيح مسلم"، وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الروايات عنها فرواية الصحابة عنها أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين، كيف ولا تعارض في ذلك البتة، فإن القائل فعلنا كذا يصدق ذلك منه بفعله وبفعل أصحابه.

ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر – رضي الله عنهما – تمتع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالعمرة إلى الحج معناه: تمتع أصحابه، فأضاف الفعل إليه لأمره به، فهلا قلتم في قول عائشة: لبينا بالحج أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج، وقولها: فعلنا كما قالت: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وسافرنا معه ونحوه، ويتعين قطعاً – إن لم تكن هذه الرواية غلطاً – أن تحمل على ذلك؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة أنها كانت أحرمت بعمرة، وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط وهو أعلم الناس بحديثها، وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة، وأما قوله في رواية حماد حدثني غير واحد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لها: ((دعي عمرتك)) فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها، فأما إذا وافقها وصدقها، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة؛ فهذا يدل على أنه محفوظ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعللة وهي قوله فحدثني غير واحد، وخالفه جماعة فرووه متصلاً عن عروة عن عائشة، فلو قدر التعارض فالأكثرون أولى بالصواب، فيا لله العجب كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها: "وكنت فيمن أهلَّ بعمرة" سائغاً بلفظ مجمل محتمل، ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها؟ فهؤلاء أربعة رووا عنها أنها أهلّت بعمرة: جابر، وعروة، وطاووس، ومجاهد، فلو كانت رواية القاسم وعمرة والأسود معارضة لرواية هؤلاء لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم، ولأن فيهم جابراً، ولفضل عروة وعلمه بحديث خالته، ومن العجب قوله: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أمرها أن تترك الطواف وتمضي على الحج توهموا لهذا أنها كانت معتمرة، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشئ إهلالاً بالحج فقال لها: ((وأهلي بالحج)) ولم يقل: "استمري عليه"، ولا امضي فيه، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره، ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء والتقليد، والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر لم يمنع من تسريح رأسه، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد، والدليل يفصل بين المتنازعين، فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه فهو جائز"أ.ه4

ثانياً: هل كانت عائشة حائض عند إحرامها؟

لما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – بسرف حاضت عائشة – رضي الله عنها -، وكانت قد أهلَّت بعمرة، فدخل عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي تبكي، قال: ((ما يبكيك لعلك نفست؟)) قالت: نعم قال: ((هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت))5.

وقد تنازع العلماء في قصة عائشة: هل كانت متمتعة أو مفردة؟ فإذا كانت متمتعة فهل رفضت عمرتها، أو انتقلت إلى الإفراد، وأدخلت عليها الحج وصارت قارنة، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا؟ وإذا لم تكن واجبة فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا؟ واختلفوا أيضاً في موضع حيضها، وموضع طهرها.

ثالثاً: ما المراد من عمرة التنعيم لعائشة – رضي الله عنها -:

وللعلماء في هذه العمرة التي أتت بها عائشة – رضي الله عنها – من التنعيم أربعة مسالك:

أحدها: أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها، وجبراً لها، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها، وكانت متمتعة ثم أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة، وهذا أصح الأقوال، والأحاديث لا تدل على غيره، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.

المسلك الثاني: أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها، وتنتقل عنها إلى حج مفرد، فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولاً، وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه، وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حقها واجبة، ولا بد منها، وعلى القول الأول كانت جائزة، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهي على هذين القولين: إما أن تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة، وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج وتصير مفردة، وتقضي العمرة.

المسلك الثالث: أنها لما قرنت لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة لأن عمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام، وهذا أحد الروايتين عن أحمد.

المسلك الرابع: أنها كانت مفردة وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض، واستمرت على الإفراد حتى طهرت وقضت الحج، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام، وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف، بل هو أضعف المسالك في الحديث.

رابعاً: ما يستفاد من حديث عائشة – رضي الله عنها -:

قال ابن القيم – رحمه الله -: وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك:

أحدها: اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد.

الثاني: سقوط طواف القدوم عن الحائض، كما أن حديث صفية زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – أصل في سقوط طواف الوداع عنها.

الثالث: أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز، كما يجوز للطاهر، وأولى; لأنها معذورة ومحتاجة إلى ذلك.

الرابع: أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها إلا أنها لا تطوف بالبيت.

الخامس: أن التنعيم من الحل.

السادس: جواز عمرتين في سنة واحدة، بل في شهر واحد.

السابع: أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة، وحديث عائشة أصل فيه.

الثامن: أنه أصل في العمرة المكية وليس مع من يستحبها غيره فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجاً منها إلا عائشة وحدها، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم ولا دلالة لهم فيها، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول إنها رفضتها، فهي واجبة قضاء لها، أو تكون زيادة محضة وتطييباً لقلبها عند من يقول: إنها كانت قارنة، وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها، والله أعلم6.

خامساً: هل كانت عمرة التنعيم مجزئة لعائشة عن عمرة الإسلام:

وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ففيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا لا تجزئ قالوا: العمرة المشروعة التي شرعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفعلها نوعان لا ثالث لهما: عمرة التمتع وهي التي أذن فيها عند الميقات، وندب إليها في أثناء الطريق، وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة، والثانية: العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر كعمره المتقدمة، ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين، وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة، وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل فلم تشرع، وأما عمرة عائشة فكانت زيارة محضة، وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزئ عن عمرة الإسلام وهذا هو الصواب المقطوع به فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة: يسعك طوافك لحجك وعمرتك، وفي لفظ "يجزئك" وفي لفظ "يكفيك"، وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة، ولم يأمر أحداً ممن قرن معه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران فصح إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعاً، وبالله التوفيق" أ. ه7.

سادساً: أين حاضت وأين طهرت؟

وأما موضع حيضها فهو بسرف بلا ريب، وموضع طهرها قد اختلف فيه فقيل: بعرفة كما روى مجاهد عنها، وروى عروة عنها أنه أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابن حزم على معنيين فطهر عرفة: هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال لأنها قالت: "تطهرت بعرفة"، والتطهر غير الطهر، قال: وقد ذكر القاسم يوم طهرها أنه يوم النحر، وحديثه في "صحيح مسلم"، قال: وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضاً، وهما أقرب الناس منها، وقد روى أبو داود حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موافين هلال ذي الحجة… فذكرت الحديث وفيه: فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة، وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم: إنه حديث منكر مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها، وهو قوله: إنها طهرت ليلة البطحاء، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال، وهذا محال، إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست من كلام عائشة فسقط التعلق بها؛ لأنها ممن دون عائشة، وهي أعلم بنفسها، قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة، قلت: يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه:

أحدها: أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة.

الثاني: أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها، وحديثه فيه الإخبار عنها.

الثالث: أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث وفيه "فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها، لكن قال مجاهد عنها: فتطهرت بعرفة، والقاسم قال يوم النحر8.

وبهذا نكون قد أكملنا حج عائشة – رضي الله عنها – مع ما يستفاد منه من مسائل فقهية، وفوائد متنوعة اختلف فيها الفقهاء لتفاوت الأفهام، وسبحان من قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}9، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (317).

2 رواه البخاري برقم (1556).

3 رواه البخاري برقم (1556).

4 زاد المعاد (ج2ص159).

5 رواه مسلم برقم (1211).

6 زاد المعاد (ج2 ص163).

7 زاد المعاد (ج2 ص164).

8 زاد المعاد (ج2 ص165).

9 سورة الأنبياء (79).