كذكركم ءآباءكم أو أشد ذكراً

كذكركم ءآباءكم أو أشد ذكراً

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن الشريعة مبناها وأساسها الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها؛ كما قال ابن القيم – رحمه الله –1.

والحج كسائر العبادات شرعه الله – عز وجل – لحكم، وواجب على الحاج أن يسعى إلى تحقيق هذه الحِكم قال – تعالى -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}2 قال ابن كثير: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا؛ لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرزاق، لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فإنه – تعالى – هو الغني عما سواه3، ولذا كان من أعظم غايات الحج ومقاصده ذكر الله – جل وعلا – كما قال سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}4، بل وتجد أن الله جعل ذكره مصاحباً للحاج في أكثر المواطن، فعندما يصعد الحاج إلى عرفات يدعو الله ويذكره كما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((خير الدعاء، دعاء يوم عرفة ….)).5

وعندما يأتي الحاج إلى المشعر الحرام فإنه مأمور بذكر الله {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}6، وهذا ما صنعه – صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم: ((ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده؛ فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً))7.

وبعدها تبدأ أيام منى، وهي أيام ذكر لله قال الله: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}8، وإذا ذبح الحاج هديه ذكر الله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}9، وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}10.

وإذا انتهى الحاج من حجه فعليه أن يلزم ذكر الله ولا يدعه {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}11، وقد تكلم العلماء على الفائدة في تكرير الأمر بالذكر حيث قال أولاً: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، ثم قال: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، فقالوا:

أولاً: أن الذكر في كلام العرب على ضربين: ذكر بالقلب عن الغفلة والنسيان، وذكر بالنطق باللسان، وبهما يحصل كمال العبودية إذا اقترن ذلك بالحب والتعظيم؛ لأنه ذكر متكامل ينهي عن الفحشاء والمنكر كما قال سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}12.

ثانياً: إن المراد مواصلة الذكر كأنه يقول لهم: اذكروا الله ذكراً بعد ذكر.

ثالثاً: أنه أمرنا بذكره عند المشعر الحرام إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة، ثم قال بعده: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} يعني أن هذا الذكر الثاني يقربكم من مراتب الحقيقة لاستغراق قلوبكم في ذكره، فتشرق عليكم أنواره المعنوية التي تكتسبون بها زيادة بصيرة نافذة في فهم ما يلقى عليكم، وتميز الصحيح من السقيم، والنصح من الغش، وهكذا لأن ذكر الله يعطيك نسبة شريفة إليه، ويجعلك في مقام عروج معنوي بانشغالك في ذكره.

رابعها: أن في قوله – تعالى -: {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قد يحصل به اشتباه في أن ذكر الله مختص بالحج أو عند المشعر، فأراد العليم الحكيم سبحانه أن لا يحصل هذا الاشتباه، فأمر بذكره دوماً في جميع الأحوال والأزمنة والأمكنة شكراً له سبحانه على نعمة هدايته لنا في كل شأن من شؤوننا، ذكراً متواصلاً غير منقطع، ولا محدداً بزمان أو مكان، ثم ليعلم أن ذكره – سبحانه وتعالى – يكون بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله – عليه الصلاة والسلام -، لا الأذكار والأوراد المبتدعة؛ فإن أسماء الله توقيفية من وحيه فقط، فليرجع في ذلك إلى نصوص القرآن والسنة، وقد قال سبحانه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}.

والمقصود أنه لما كانت نعمة الهداية الإلهية متواصلة في كل شيء، وشاخصة لنا أمام كل شيء؛ وجب أن يكون الذكر لله مستمراً غير منقطع، ولهذا قال: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}13"14.

وينبغي أن يكون ذكر الله على الطريقة التي أرشد إليها النبي – صلى الله عليه وسلم – قولاً وفعلاً من التهليل الكامل، والتكبير، والتسبيح، والتحميد، ومن أعظمها ما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي في يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير))15.

وما ورد من التكبير عقب كل صلاة من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، والأذكار الأخرى المنصوصة في الأحاديث من التسبيح، والتحميد، والاستغفار.

وأما ما أحدثته وابتدعته الصوفية وفروعها من الذكر المفرد فهذا مخالف لهدي المصطفى – صلى الله عليه وسلم – سواء كان مُظهَرَاً كقوله: الله الله، أو مُضمَرَاً كقوله: هو هو، فإن هذا من وحي الشياطين، المخالف لهدي رب العالمين.

أخي الحاج:

حري بك أن تعمر وقتك بذكر الله – تعالى -، وألا يفتر لسانك عنه، وأن تكثر منه في سائر أحوالك جالساً، وراكباً، وخالياً، وأنت تؤدي المناسك من إحرام وطواف وسعي، وفي عرفة ومزدلفة، وعند رمي الجمار؛ لتحقق العبودية لله بإقامة ذكره، ولتستعين بالذكر على أداء النسك، فذكر الله هو مقصود العبادة الأعظم، وبركاته وفوائده إنما تحصل بالمداومة عليه، والإكثار منه، واستحضار ما يقال فيه، وبالمحافظة على أذكار طرفي النهار، والأذكار المطلقة والمقيدة، وبالحذر من الابتداع فيه، ومخالفة المشروع، أعاننا الله جميعاً على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله أجمعين.


1 إعلام الموقعين (3/3).

2 سورة الحج (37).

3 تفسير ابن كثير (3/ 224).

4 سورة الحج (27).

5 رواه الترمذي برقم (3509)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3585).

6 سورة البقرة (198-199).

7 رواه مسلم برقم (2137).

8 سورة البقرة (203).

9 سورة الحج (34).

10 سورة الحج (36).

11 سورة البقرة (200).

12 سورة العنكبوت (45).

13 سورة البقرة (152).

14 الحج أحكامه – أسراره – منافعه للعلامة عبد الرحمن الدوسري (60).

15 سبق تخريجه برقم (5) في الحاشية.