كم حج النبي

كم حج النبي – صلى الله عليه وسلم –

 

الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على هادي الأمة الأبر، صاحب الجبين الأغر، براق الثنايا كريم المخبر، أما بعد:

فما نعلمه جميعاً دون أي مرآي هو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أدى مناسك الحج إذعاناً لأمر ربه {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}1، ونقل الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم جميعاً- صفة حجته حتى لكأنك تنظر إليه، لكن ما يخفى على البعض أو يغيب على الكثير هو كم عدد هذه الحجات التي حجها النبي – صلى الله عليه وسلم -؟

وهنا محاولة منا أن نقف على هذا العدد، مستعينين في ذلك بما ورد في بعض مصادر كتب الفقه والسير والتاريخ التي أشارت ولو عرضاً إلى هذا الموضوع، ويمكن أن نقسم هذا السؤال إلى شقين من الناحية التاريخية، فيتعلق الشق الأول بحجه – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة يعني – أيام الجاهلية -، بينما يتعلق الشق الثاني: بحجه – صلى الله عليه وسلم – بعد البعثة، وفي هذه محورين:

المحور الأول: بعد بعثته – صلى الله عليه وسلم – وتشريف الله له بالرسالة، وقبل أن يأذن الله له بالهجرة.

المحور الثاني: عقب هجرته إلى المدينة.

وحقيقة أن أكثر الأحداث التي نقلت إلينا تتعلق بما بعد بعثته – صلى الله عليه وسلم -، وخاصة تلك التي أعقبت هجرته، أما ما يتعلق بالشق الأول فلا توجد لدينا معلومات قطعية كافية، وللغليل شافية.

لمحة تاريخية:

لقد كان الحج معروفاً عند العرب من أيام إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام -، واستمروا يحجون حتى جاء الإسلام، والرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو المولود في مكة، والناشئ فيها؛ إلى أن بعث وهاجر، كان يمارس ما تمارسه العرب من الشعائر الباقية من دين إبراهيم، على الرغم مما حدث في بعضها من تغيير كوقوف جماعة منهم يوم عرفة في الحرم وليس في عرفة؛ لأنها في الحل، والنسيء الذي أخروا به الحج عن موعده الحقيقي، ولما جاء الإسلام كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يجتمع بالناس في موسم الحج؛ ليبلغهم الدعوة في منى ثلاث سنين متوالية".2

يقول القرطبي في تفسيره: "كان الحج معلوماً عند العرب مشهوراً لديهم، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتبررها وتحنفها – أي الطاعة والعبادة -، فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا، وألزموا بما عرفوا، وقد حج النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، ونحن الحمس – المتشددون في الدين -"3.

حجه في الجاهلية:

نقل ابن حجر في الفتح: إنه حج أي الرسول – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يهاجر مراراً؛ لأن قريشاً في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة، أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب؛ فكيف يظن بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أنه يتركه، وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم أنه رآه في الجاهلية واقفاً بعرفة4، حتى نص صاحب العرف الكشميري على هذا فقال: "أما قبل النبوة فالحج ثابتة بدون تعيين العدد، كما يقول صحابي: إن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رأيته قبل البعثة قائماً بعرفات حين كنت أطلب ناقة لي فقدت، ولعل عمله هذا كان عملاً بفطرته، فإنه كانت قريش يحجون كل عام، وكانوا يقفون بمزدلفة ولا يخرجون إلى عرفات، وكان سائر العرب يذهب إلى عرفات".5

وأما بالنسبة لعدد هذه الحجات فيقول صاحب الفتح: "أما قبل النبوة فلا يعلم عدد حجه إلا الله، وكل ذلك استصحاب للأصل الذي درج عليه العرب من أيام إبراهيم – عليه السلام -"6.

بعد البعثة:

ولنا أن نفرق بين مرحلتين:

مرحلة ما قبل الهجرة، وما زال النبي – صلى الله عليه وسلم – حينها في مكة، لكنه قد تنبأ، ونزلت عليه رسالة السماء.

ومرحلة ما بعد الهجرة، وقد استقر الحال بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في المدينة.

وقد وقع النزاع فيما يتعلق بالمرحلة الأولى: ما قبل هجرته – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة، فما اتفقوا عليه ما بعد الهجرة، وأنه بعدما فرض الحج في الإسلام بقوله – تعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}7، وكان ذلك في السنة السادسة أو التاسعة للهجرة على اختلاف, أن النبي – صلى الله عليه وسلم -لم يحج بعد فرض الحج إلا حجة واحدة هي حجة الوداع، ولا خلاف بين العلماء أنها كانت سنة عشر من الهجرة، وسميت بذلك؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – ودع الناس فيها ولم يحج بعدها، وقال: ((لعلي لا أراكم بعد عامي هذا))8، وقال: ((ليبلغ الشاهد الغائب))9، ويقال لها حجة البلاغ، وحجة الإسلام، وسميت بذلك؛ لأنه – عليه الصلاة والسلام – لم يحج من المدينة غيرها، وأن نسكه يومئذ كان القران، قال الإمام أحمد: "لا شك أنه – صلى الله عليه وسلم – كان قارناً، والمتعة أحب إليه"10.

وأما ما يتعلق بالمرحلة التي سبقت الهجرة فذكر عن أن ابن سعد قال: "إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يحج غير حجة الوداع منذ تنبأ إلى أن توفاه الله – تعالى -"، إلا أن ابن حجر ذكر غير هذا في الفتح فقال: "بل الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط"، ونقل ابن خزيمة في الصحيح: "باب ذكر عدد حجج النبي – صلى الله عليه وسلم -، والدليل على ضد ما توهمه العامة أن النبي – صلى الله عليه وسلم -لم يحج إلا حجة واحد"، ثم قال: "والنبي – صلى الله عليه وسلم – إنما حج حجة واحدة بعد هجرته إلى المدينة، فأما ما قبل الهجرة فقد حج النبي – صلى الله عليه وسلم – غير تلك الحجة التي حجها من المدينة، وذكر الدليل على صحة هذا المتن والبيان أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد حج قبل هجرته إلى المدينة لا كما من طعن في هذا الخبر، وادعى أن هذا الخبر لم يروه غير زيد بن الحباب، فإن جبير بن مطعم قال: لقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس،… قال أبو بكر قوله: "قبل أن ينزل عليه" يشبه أن يكون أراد قبل أن ينزل عليه {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}11، أو من قبل أن ينزل عليه جميع القرآن12، وهو مبنى – كما يقول ابن حجر – على مقابلته للأنصار بالعقبة، وهذا بعد النبوة، أما قبل النبوة فلا يعلم عدد حجه إلا الله، وكل ذلك استصحاب للأصل الذي درج عليه العرب من أيام إبراهيم – عليه السلام –13.

وتبقى مسألة كم عدد هذه الحجات؟

أخرج الترمذي عن جابر – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة14، قال ابن إسحاق في مسائل أحمد وابن راهويه: "وحج النبي – صلى الله عليه وسلم – حجتين قبل أن يهاجر يعني – إلى المدينة -"15، قال الفقيه أبو عمر – رضي الله عنه -: قال جماعة من أهل العلم بالسير والأثر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -لم يحج في الإسلام إلا ثلاث حجات: اثنتين بمكة، وواحدة بعد فرض الحج عليه من المدينة.16

نسأل الله أن نكون قد وفقنا في استعراض ما أشرنا إليه، وأتينا على ما نشبع به الكلام حول هذا الموضوع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة آل عمران (97).

2 الزرقاني على المواهب (3/105).

3 تفسير القرطبي (4/143).

4 فتح الباري (8/107).

5 العرف الشذي للكشميري (2/301).

6 فتح الباري (8/107).

7 سورة آل عمران (97).

8 رواه الترمذي برقم (812)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2/386).

9 رواه البخاري برقم (102)، ومسلم برقم (3179).

10 الإنصاف للماوردي (3/435).

11 سورة البقرة (199).

12 صحيح ابن خزيمة (4/354)

13 فتح الباري (8/107).

14 الروض الأنف (4/380).

15  مسائل أحمد وابن راهوية (1/564)

16 الدرر (1/260).