أيهما أفضل يوم عرفة أم يوم النحر؟

أيهما أفضل يوم عرفة أم يوم النحر؟

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته – إلى يوم الدين، أما بعد:

لقد فضل الله بعض الأيام والشهور على بعض، وفي ذلك قيل: أن خير الأيام عند اللّه يومُ النحر، وهو يومُ الحج الأكبر كما في جاء عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((أَفْضَلُ الأيَّامِ عِنْدَ اللَهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ))1 وهو يوم الحادي عشر، والأيام من الثامن إلى الثالث عشر كلها لها أسماء، فالثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، والحادي عشر يوم القرِّ، والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني.

وقيل: يومُ عرفة أفضلُ من يوم النحر، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي، قالوا: لأنه يومُ الحج الأكبر، وصيامُه يكفر سنتين، ومَا مِنْ يَوْمٍ يَعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ الرِّقابَ أَكثَرَ مِنهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، ولأنه – سبحانه وتعالى – يَدْنُو فِيهِ مِنْ عِبَادِه، ثُمَّ يُبَاهِي مَلاَئِكَتَه بِأَهْلِ الموقف.

والصواب هو القول الأول لما جاء عند أبي داود أن رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يوم الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ))2، وبه قال أبو هريرة وجماعةٌ من الصحابة، ويومُ عرفة مقدِّمة ليوم النَّحر؛ إذ فيه يكونُ الوقوفُ والتضرعُ، والتوبةُ والابتهالُ، والاستقالةُ ثم يومَ النَّحر وتكون الوفادةُ والزيارة، ولهذا سمي طوافُه طوافَ الزيارة؛ لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم ربُّهم يوم النَّحر في زيارته، والدخولِ عليه إلى بيته, ولهذا كان فيه ذبحُ القرابين، وحلقُ الرؤوس، ورميُ الجمار، ومعظمُ أفعال الحج وعملُ يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم.

فإن قيل: فأيهما أفضلُ: يوم الجمعة، أم يوم عرفة؟

فالجواب: ما روى ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلاَ تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ))3، وفيه أيضاً حديث أوس بن أوس: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشَّمْس يَوْمُ الجُمْعَةِ…….))4، والصوابُ أن يوم الجمعة أفضلُ أيام الأسبوع، ويومَ عرفة ويوم النَّحر أفضلُ أيام العام، وكذلك ليلةُ القدر، وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يومَ عرفة – يعنى لو وافق يوم عرفة يوم جمعة – مزية على سائر الأيام من وجوه متعدّدة:

أحدها: اجتماعُ اليومين اللذين هما أفضلُ الأيام.

الثاني: أنه اليومُ الذي فيه ساعة محققة الإِجابة، وأكثر الأقوال أنها آخر ساعة بعد العصر، وأهل الموقف كلُّهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع.

الثالث: موافقتُه ليوم وقفة رسول اللّه – صلى الله عليه وسلم -.

الرَّابع: أن فيه اجتماعَ الخلائق مِن أقطار الأرض للخطبة، وصلاة الجمعة، ويُوافق ذلك اجتماعَ أهل عرفة يومَ عرفة بعرفة، فيحصُل مِن اجتماع المسلمين في مساجدهم، وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصُل في يوم سواه.

الخامس: أن يوم الجمعة يومُ عيد، ويومَ عرفة يومُ عيد لأهل عرفة.

السادس: أنه موافق ليوم إكمال اللّه – تعالى – دينَه لعباده المؤمنين، وإتمامِ نعمته عليهم كما ثبت في البخاري عن طارق بن شهاب قال: "جاء يهوديٌ إلى عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – فقال: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِين آيَةٌ تَقْرَؤونَهَا في كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ وَنَعْلَمُ ذَلِكَ اليَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيه لاتَّخَذْنَاهُ عِيداً، قَالَ: أيُ آَيَةٍ؟ قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}5، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ مَعَهُ بِعَرَفَةَ".

السابع: أنه موافق ليوم الجمع الأكبر، والموقفِ الأعظم يومِ القيامة، فإن القيامة تقومُ يومَ الجمعة كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَاً إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ))6.

الثامن: أن الطاعةَ الواقِعَة مِن المسلمين يومَ الجُمعة، وليلةَ الجمعة، أكثر منها في سائر الأيام، حتى إن أكثرَ أهل الفجور يَحترِمون يوم الجمعة وليلته.

التاسع: أنه موافق ليوم المزيد في الجنة، وهو اليومُ الذي يُجمَعُ فيه أهلُ الجنة في وادٍ أَفْيحَ، ويُنْصَبُ لهم مَنَابِرُ مِن لؤلؤ، ومنابِرُ من ذهب، ومنابرُ من زَبَرْجَدٍ وياقوت على كُثبَانِ المِسك، فينظرون إلى ربِّهم – تبارك وتعالى -، ويتجلى لهم، فيرونه عِياناً.

العاشر: أنه يدنو الرّبُّ – تبارك وتعالى – عشيةَ يومِ عرفة مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: "مَا أَرَادَ هؤُلاءِ، أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم"، وتحصلُ مع دنوه منهم – تبارك وتعالى – ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائل يسأل خيراً، فيقربُون منه بدعائه، والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم – تعالى – نوعين من القُرب، أحدهما: قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاتُه بهم ملائكته.

فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها.

وأمّا ما استفاض على ألسنة العوام بأنها تعدل اثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول – صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من الصحابة أو التابعين، وعلى هذا فيوم عرفة ولو لم يوافق يوم جمعة فهو من أفضل أيام الدهر، ولو قلنا – وهو الصحيح – أن يوم النحر هو خير الأيام فإن الحاج يتقلب فى الخيرين يوم عرفة ويوم النحر.

فيوم عرفة من الأيام الفاضلة، تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره, وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران، نسأل الله أن يعتق رقابنا من النار في هذا اليوم العظيم.

ووجوه تفضيل يوم عرفة – خاصة لأهل الموقف – كثيرة منها:

1- أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:

أخرج البخاري عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيداً قَالَ: أَيُّ آيَةٍ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِيناً} قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".

2- أنه يوم عيد لأهل الموقف خاصة وللمسلمين عامة:

فقد أخرج الترمذي عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ))7.

3- إنه يوم أقسم الله به:

فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اليَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، والْيَوْمُ المَشْهود: هو يَومُ عَرَفَة، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلَ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنِّ يَدْعُو اللَّهَ فيهَا بخَير إلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُهُ منْ شَرٍّ إِلاَّ أعَاذَه مِنْهُ))8.

4- إن صيامه يكفر سنتين:

فعَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبَلَةً، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً))9، وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، وقال ابن القيم – رحمه الله -: "إن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل فيه وجهان:

أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام، وقبله شهر حرام، وبعده شهر حرام بخلاف عاشوراء.

الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء فضوعف ببركات المصطفى – صلى الله عليه وسلم – والله"10.

5-  أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف:

فعن عَائِشَةُ – رضي الله عنها – أنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤَلاءِ))11 قال ابن القيم في زاد المعاد:

هديه – صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة: "فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل جبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره؛ فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: ((وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ))12.

وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ….وذكر من دعائه – صلى الله عليه وسلم – في الموقف: ((اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالذي نَقُولُ وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صلاتي وَنُسُكى، ومحياي، ومماتي، وَإليكَ مآبي، اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ))13، ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: ((اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كلامي، وتَرَى مكاني، وتَعْلَمُ سرِّى وعلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَئٌ مِنْ أمري، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بذنوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تجعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بي رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المسئولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ))14.

وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النبي – صلى الله عليه وسلم – يَوْمَ عَرَفة: "لا إله إلاَّ اللَّهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير"15، وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم، وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ فسألوه عن الحجِّ، فقال: ((الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه))16.

*فائدة: معنى "الحج عرفة" قالوا: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ ((الْحَجُّ عَرَفَةُ)) لَمَّا كَانَ الْحَجُّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِعَرَفَةَ 17، وقال ابن حجر – رحمه الله -: "الْحَجّ عَرَفَة" أَيْ مُعْظَم الْحَجّ وَرُكْنه الْأَكْبَر18، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيد بِهِ مُعْظَم الْحَجّ وَهُوَ الْوُقُوف؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَاف عَلَيْهِ الْفَوَات فَأَمَّا طَوَاف الزِّيَارَة فَلَا يُخْشَى فَوَاته، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: "الْحَجّ عَرَفَة" أَيْ مُعْظَم الْحَجّ هُوَ الْوُقُوف19، وقيل معنى "الْحَجُّ عَرَفَةُ" أَيْ الْحَجُّ الصَّحِيحُ حَجُّ مِنْ أَدْرَكَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُالسَّلَامِ: "تَقْدِيرُهُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ وُقُوفُ عَرَفَةَ"، وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ: "أَيْ مِلَاكُ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ"20، وقيل: "الْحَجّ عَرَفَة" التَّقْدِير مُعَظَّم الْحَجّ وُقُوف يَوْم عَرَفَة وَقِيلَ: إِدْرَاك الْحَجّ إِدْرَاك وُقُوف يَوْم عَرَفَة، وَالْمَقْصُود أَنَّ إِدْرَاك الْحَجّ يَتَوَقَّف عَلَى إِدْرَاك الْوُقُوف بِعَرَفَة21، وقيل "الْحَجّ عَرَفَة" قِيلَ التَّقْدِير مُعْظَم الْحَجّ وُقُوف يَوْم عَرَفَة، وَقِيلَ إِدْرَاك الْحَجّ وُقُوف يَوْم عَرَفَة، وَالْمَقْصُود أَنَّ إِدْرَاك الْحَجّ يَتَوَقَّف عَلَى إِدْرَاك الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَأَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ فَقَدْ أَمَّنَ حَجّه مِنْ الْفَوَات22، وقيل: "الحج عرفة" أي معظمه، أو ملاكه الوقوف بها لفوت الحج يفوته ذكره البيضاوي…… الحج عرفة أي هو الأصل، والباقي تابع23، وقال العيني "قوله الحج عرفة على معنى أن الوقوف هو المهم من أفعاله، لكون الحج يفوت بفواته، وكذلك قوله يوم النحر يوم الحج الأكبر بمعنى أن أكثر أفعال الحج من الرمي والحلق والطواف فيه"24، وقيل "ما رؤي الشيطان في يوم هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة"25.

وكان يقول – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع))26 أي: ليس بالإسراع، وذلك حين أفاض من عرفات.

ومما يفوت كثير من الحجيج في عرفات دوام التلبية مع الذكر والدعاء، بلا كف ولا انقطاع؛ لأنها خير ساعات الحج، وآمل حالات الحاج فى العفو والمغفرة، وكفارة السيئات, ولا يتصور أن عبداً أدرك من عرفات والموقف فيه مثل هذه الأمور ثم هو يفعل مثل ما يفعله كثير من الجهال المحرومين الذين يردون الماء العذب الزلال وهم على مشارف الهلاك من شدة الظمأ، ثم يعودون أشد ظمأً وهلاكاً والعياذ بالله, فمن ضيع عرفات فهو لكل الحج أضيع – نسأل الله السلامة والعافية -، ومن هنا ينبغي أن تعلم أنه يجب أن يكون حالك بين خوف صادق، ورجاء محمود كما كان حال السلف الصالح، والخوف الصادق: هو الذي يحول بين صاحبه وبين حرمات الله – تعالى – وحدوده، فإذا زاد عن ذلك خيف منه اليأس والقنوط، والرجاء المحمود: هو رجاء عبد عمل بطاعة الله على نور وبصيرة من الله، فهو راج لثواب الله، أو عبد أذنب ذنباً ثم تاب منه ورجع إلى الله، فهو راج لمغفرته وعفوه.

فينبغي عليك أخي الحاج أن تجمع في هذا الموقف العظيم، وهذا اليوم المبارك بين الأمرين: الخوف والرجاء , فتخاف من عقاب الله وعذابه، وترجو مغفرته وثوابه, وتؤمل فى فيض رحماته أن يكون لك منها وفيها أكبر نصيب، وألا تكون من المحرومين – والعياذ بالله تعالى -، فهنيئاً لمن وقف بعرفة فغفر له وعفي عنه.

هنيئاً لك أخي الحاج يا من رزقك الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدقه، وتائب أخلص لله توبة صادقه، وهارب لجأ إلى باب الله ورحمته، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أثقلِ الأوزار فكه وأطلقه, وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء، ويباهي بجمعهم أهل السماء فعن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رضي الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّهَ – عَزَّ وَجَلَّ – يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثاً غُبْراً)).

ثم أعلم أخي الحاج أنه قد جاء فى الأثر: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتبُ اللهُ لك بها حسنة، و يمحو عنك بها سيئة, و أما وقوفك بعرفة فإن الله – عز وجل – ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: "هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رملُ عالج "موضعٌ بالبادية"، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قِطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك, و أما رميك الجمار فإنه مدخور لك, وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك"27.

وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه أبو داود برقم (1502) قال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم (1064) في صحيح الجامع.

2 رواه الترمذي برقم (881)، وصححه الألباني في الإرواء (ج4ص 300).

3 رواه أحمد برقم (7362)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (697).

4 رواه أحمد برقم (882)، قال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 3333 في صحيح الجامع.

5 المائدة (3).

6 رواه مسلم برقم (1410).

7 رواه الترمذي برقم (704)، وقال الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 8192 في صحيح الجامع.

8 رواه الترمذي برقم (3262)، وحسنه الألباني. انظر الصحيحة رقم 1502.

9 رواه البخاري برقم (1977).

10 بدائع الفوائد (ج5/ص315).

11 رواه مسلم برقم (2402).

12 رواه مسلم برقم (2138).

13 رواه الترمذي برقم (3442)، قال الشيخ الألباني (ضعيف) انظر حديث رقم: 1214 في ضعيف الجامع.

14 رواه الطبراني وقال الألباني (ضعيف)، انظر حديث رقم: 1186 في ضعيف الجامع.

15 رواه أحمد برقم (6667)، وقال الشيخ الألباني (حسن) انظر حديث رقم: 3274 في صحيح الجامع.

16 رواه الترمذي وحسنه برقم (2901)، وقال الشيخ الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 3172 في صحيح الجامع.

17 فى المنتقى شرح الموطأ (ج1/ص196).

18 فى فتح الباري لابن حجر (ج18/ص55).

19 عون المعبود (ج4/ص337).

20 تحفة الأحوذي (ج2/ص435).

21 شرح سنن النسائي (ج4/ص334).

22 حاشية السندي على ابن ماجه (ج6/ص82).

23 فيض القدير (ج3/ص539).

24 عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني الحنفي (ج15/ص322).

25 أخرجه مالك عن إبراهيم بن أبي عيلة عن طلحة بن عبد الله بن كريز مرسلاً برقم (840)/ وضعفه الألباني في المشكاة برقم (2600).

26 رواه البخاري برقم (1559).

27 أخرجه الطبراني عن ابن عمر، وقال الألباني (حسن) انظر حديث رقم: 1360 في صحيح الجامع.