وأتموا الحج والعمرة لله

وأتموا الحج والعمرة لله

 

 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن الحج والعمرة من الشعائر التعبدية التي يجتمع الناس لأدائها من كل حدب وصوب، في بيت الله العتيق، وفي المشاعر المقدسة, إذ الحج واجب على كل مكلف مستطيع قال – تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}1، ومعنى الإحصار لغة: المنع من المضي لأمر والحبس، وشرعاً: منع المضي في أفعال الحج سواء كان المنع ظاهراً كالعدو، أو باطناً كالمرض2، يقال: أحصره المرض أو السلطان إذا منعه عن مقصده، فهو محصر وحصره إذا حبسه فهو محصور3؛ وقال ابن الأثير: الإحصار أن يمنع عن بلوغ المناسك بمرض أو نحوه، قال الفراء: العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته وكل مالم يكن مقهوراً كالحبس والسحر وأشباه ذلك يقال في المرض: قد أحصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان أو قاهر مانع: قد حصر فهذا فرق بينهم4.

وعلى هذا فإن الإنسان إذا بدأ بالإهلال بالحج فعليه الإتمام قال العلامة ابن عثيمين – رحمه الله تعالى -: "الحج، والعمرة يخالفان غيرهما في وجوب إتمام نفلهما لقوله – تعالى -: {وَأَتِمُّوا}؛ والأمر للوجوب؛ ويدل على أنه للوجوب قوله – تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، حيث أوجب الهدي عند الإحصار؛ أما غيرهما من العبادات فإن النفل لا يجب إتمامه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل على أهله ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟ قالوا: نعم، حيس؛ قال: أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً؛ فأكل))5؛ لكن يكره قطع النفل إلا لغرض صحيح كحاجة إلى قطعه، أو انتقال لما هو أفضل منه6".

والإحصار قد يكون بمرض، أو خوف عدو، أو بالمنع كما حصل للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديبية، ويكون بكل ما يمنع من أداء النسك، وذلك لأن الله – تبارك وتعالى – أتى بلفظ الإحصار عاماً فيشمل جميع أنواعه, ويجوز لمن أحصر أن يتحلل وعليه الهدي, وقالت الشافعية: لا يكون الإحصار إلا من عدو، فقالوا في الذي أحصر بمرض أوحبس بحق: "فالمريض متمكن من إتمام النسك معه فلم يبح له إلا بشرط، ولا كذلك هنا، أما إذا حبس بحق كأن حبس بدين متمكن من أدائه فلا يجوز له التحلل، بل عليه أن يؤديه ويمضي في نسكه، فلو تحلل لم يصح تحلله، فإن فاته الحج في الحبس لم يتحلل إلا بعمل عمرة بعد إتيانه مكة، كمن فاته الحج بلا إحصار7", وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسير الآية: "فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما؛ ولهذا قال بعده: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي: "صددتم عن الوصول إلى البيت، ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء8", وقال السدي في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } أي: أقيموا الحج والعمرة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنه – في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، فتمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل؛ وقال قتادة عن زُرَارة عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: "الحج عرفة، والعمرة الطواف"9، وقال العلامة العثيمين – رحمه الله – في قوله – تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي ائتوا بهما تامتين؛ وهذا يشمل كمال الأفعال في الزمن المحدد، وكذلك صفة الحج، والعمرة بأن تكون موافقة تمام الموافقة لما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقوم به، واللام في قوله – تعالى -: {لِلَّهِ} تفيد الإخلاص يعني مخلصين لله – عز وجل -، ممتثلين لأمره، وقوله – تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي منعتم عن إتمامها {فَمَا اسْتَيْسَرَ} أي فعليكم ما تيسر من الهدي؛ وزيادة الهمزة، والسين للمبالغة في تيسر الأمر؛ و{مِنَ الْهَدْيِ} أي الهدي الشرعي؛ فـ(أل) فيه للعهد الذهني؛ والهدي الشرعي هو ما كان ثنياً مما سوى الضأن؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن))10؛ وهذا النهي يشمل كل ما ذبح تقرباً إلى الله – عز وجل – من هدي، أو أضحية، أو عقيقة11".

ومن فوائد الآية الكريمة أن فيها إشارة إلى الإخلاص لله – تبارك وتعالى -، وذلك لأن الإخلاص شرط لقبول الأعمال، ويكون معنى الآية: أتموا الحج والعمرة لله لا لجاهٍ، ولا من أجل رتبة، ولا ثناء من الناس, قال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}12, وقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}13 وغيرها من الآيات, وعن أبي هريرة – رضي الله – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: قال الله – تبارك وتعالى -: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))14, وقال – تبارك وتعالى -: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}15.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الزلل، وأن يكرمنا برضاه إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.


 


1 سورة البقرة (196).

2 التعاريف (1/41).

3 النهاية في غريب الأثر (1/979).

4 تاج العروس (1/2693).

5 رواه مسلم في صحيحه برقم (1154) عن عائشة – رضي الله عنها – بلفظ: "دخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإنى إذن صائم، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل)).

6 تفسير القرآن للعثيمين (4/320).

7 مغني المحتاج (1/532).

8 تفسير ابن كثير (1/530).

9 تفسير ابن كثير (1/531).

10 رواه مسلم في صحيحه برقم (1963).

11 تفسير القرآن للعثيمين (4/315).

12 سورة البينة (5).

13 سورة الأعراف (29).

14 رواه مسلم في صحيحه برقم (2985).

15 سورة الزمر (3).