طرق الاعتصام بالكتاب والسنة

طرق الاعتصام بالكتاب والسنة

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

أمر الله الأمة بالاجتماع، وتوحيد الكلمة، وجمع الصف؛ على أن يكـون أساس هذا الاجتماع هو الاعتصام بالكتاب والسنة، ونهى عن التفرق، وبـيَّن خطورته على الأمة في الدارين, ولتحقيق ذلك أَمرنا بالتحاكـم إلى كتـاب الله – تعالى – في الأصول والفروع لأن الطريق الصحيح إلى النجاة هو التمسك بكتاب الله – تعالى – وسنة رسـوله – صَلَّى اللَّه عليه وسلم – فإنهما الحصن الحصين، والحرز المتين لمن وفقه الله – تبارك وتعـالى – قـال – تعـالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}1، فأمر الله – تعالى – في هذه الآية بالاعتصام بحبل الله وهو عهد الله أي القرآن كما قال المفسرون، والعهد الذي أخذه الله على المسـلمين هو الاعتصام بالقرآن والسنة, حيث أمر – تعالى – بالجماعة، ونهى عن التفـرق والاختلاف.

وقال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}2، وهذا شامل لأصول الدين وفروعه الظاهرة والباطنة، فيتعين على العباد أيضاً الأخذ بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – واتباعه فلا تحل مخالفتـه، حيث أن نص الرسول – صلى الله عليه وسلم – على حكـم الشيء كنص الله – تبارك وتعالى -، ولا رخصة لأحـد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}3, فأمر الله – تبارك وتعالى – عباده المؤمنين بطاعتـه وطاعة رسـوله – صلى الله عليه وسلم -، وزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له, ولهذا قـال – سبحانه وتعالى -: {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي تتركوا طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره؛ وقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}4.

وطرق الاعتصام بالكتاب والسنة كثيرة نقتصر منها على ثلاثٍ هي:

1-      العمل بها وتطبيقها في الواقع وعلى السلوك: وبه يكون الفوز برضا الله – تبارك وتعالى – في الدنيا أولاً, ثم في الآخرة ثانياً, أما في الدنيا فيرضى الله عنك، ويرزقك أحسن الرزق لتعيش في سعادة عظمى لا يعلمها إلا الله، وأما في الآخرة فبمغفرة الله – تبارك وتعالى – لك، وإكرامك بإدخالك دار كرامته – سبحانه – في جنة عدن.

والعمل لا يقتصر على واحد منهما بل لا بد منهما جميعاً فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض))5 قال العلامة ابن قيم الجوزية – رحمه الله تعالى -: "فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما، ويرد أحدهما بالآخر، بل سكوته عما نطق به، ولا يمكن أحداً أن يطرد ذلك، ولا الذين أصلوا هذا الأصل، بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه"6 أ.هـ, وقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((حتى يردا علي الحوض)) يعني إلى يوم القيامة، فيجب على الإنسان أن يعمل بالكتاب والسنة حتى يموت دون أن يفرق بينهما بالعمل بأحدهما دون الآخر؛ كالذين يردُّون السنة من الذين يقولون: نعمل بالقرآن ولا نعمل بالسنة, أو يردونها بقولهم: إن السنة إذا جاءت بنص زائد عن القرآن فهذا نسخ, فإن في هذا الحديث رد عليهم، وفيه الحث على الإتباع، ولقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم – أشد الناس حرصاً على العمل بالكتاب والسنة، وأشدهم عداوة وبغضاً للبدع وأهلها, وهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه وأرضاه – عندما مات النبي – صلى الله عليه وسلم – جاءت إليه فاطمة الزهراء – رضي الله عنها – تطلبه ميراث أبيها, فأبى، وأخبرها بنص النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك كما ورد في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها -: "أن فاطمة – عليها السلام – ابنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مما أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا نورث، ما تركنا صدقة)), فغضبت فاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال لست تاركاً شيئاً كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ, فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم"7, ولما مات النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومنع أُناس الزكاة؛ قاتلهم وقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقد جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: "لما توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو بكر – رضي الله عنه -، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر – رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله))، فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم على منعها, قال عمر – رضي الله عنه -: فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر – رضي الله عنه – فعرفت أنه الحق"8.

قاد السفينَ بجـــرأة ومهـــارة                كـالطَّــود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ

وارتدت العرب الغـلاظ فأشفـقتْ                 همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟

والله لو منعــــوا عِقـال نويقةٍ                  أدَّوه نحــو المصطفى لن يَسلَموا

ومضى أبو بكر لغـــــايته إلى                  أن أخضع المرتد وهـــو مرغمُ

هذا هو الإســـــلام في عليائه                  مُثُـــــلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ9

إن ذلكم الجيل لم يتحول إلى جيل فريد إلا لأنه قد جعل نصوص القرآن الكريم والسنة منهج تلقٍ للتنفيذ والعمل والتطبيق، لا منهج دراسة ومتعة كما هو حال كثير من الأجيال التي خلفت ذلك الجيل الفريد، وإن أولئك لم يكونوا يقرؤون القرآن الكريم بقصد الثقافة والاطلاع وزيادة الحصيلة الفقهية فحسب، بل كان الواحد منهم يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله – تبارك وتعالى – في خاصة شأنه وشأن المجتمع الذي يعيش فيه، والحياة التي يحياها, يتلقى ذلك كله ليعمل به فور سماعه.

2-      تدريسها وتعليمها وتقريرها في المدارس والجامعات: فإن ذلك من العمل بهما, وعلى العلماء والدعاة وطلاب العلم القيام بهذا الواجب, فإن الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – كانوا يحضرون عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فيتعلمون منه، ثم ينطلقون في مشارق الأرض ومغاربها يعلمون الناس هذا الدين، حتى إنك لتجد منهم من مات في اليمن، ومنهم من مات في بلاد ما وراء النهر، والبعض مات في بلاد السند وهكذا, فإذا ما تم تدريس الكتاب والسنة على فهم السلف, وأقول على فهم السلف لأنهم هم الذين عاصروا التنزيل, وكانوا أحرص الناس على الإتباع, وقد قال الله – تبارك وتعالى -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}10, وقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}11, وسبيل المؤمنين يدخل فيهم الصحابة والتابعين دخولاً أولياً) في المدارس والجامعات كان ذلك سبب لنشرهما والاعتصام بهما.

3-      تبليغهما للناس: وهو أمر مهم جداً وذلك لأنه سبب في نشر هذا الخير بين الناس, فإذا ما انتشر عُمل بهما، وكان سبباً في الاعتصام بهما, وقد أمر الله – تبارك وتعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم – بتبليغ ما أنزل إليه فقال – جل جلاله -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}12, وأمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بالبلاغ كما ثبت ذلك في الصحيح عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))13, وعن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))14.

هذا ما تيسر قوله في الموضوع، ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا من المتمسكين بهما، العاملين بهما, الذابين عنهما, ونسأله أن يرزقنا تبليغهما على الوجه المطلوب بمنه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


1 سورة آل عمران (103).

2 سورة الحشر (7).

3 سورة الأنفال (20).

4 سورة النساء (59).

5 رواه الدارقطني برقم (149)؛ والبيهقي في السنن الكبرى برقم (20124)؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3232).

6 إعلام الموقعين (2/307).

7 رواه البخاري برقم (2926)؛ ومسلم برقم (1759).

8رواه البخاري برقم (1335)؛ ومسلم برقم (20).

9 الأبيات من شريط السماء والسماوة للشيخ على القرني.

10 سورة الأنعام (90).

11 سورة النساء (115).

12 سورة المائدة (67).

13 رواه البخاري برقم (4274).

14 رواه البخاري برقم (4739).