ليلة النصف من شعبان

ليلة النصف من شعبان

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}3 أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: حديثنا اليوم عن ليلة انقسم الناس فيها إلى قسمين: فريق غلا، وآخر جفا، هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان.

غلا فيها فريق فجعلوها الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وهذا خلاف ما نص عليه ربنا – عز وجل – في محكم التنزيل إذ يقول – جل وعلا – في مطلع سورة الدخان: {حم * والكتاب المبين * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}4، فبين – جل وعلا – أن الكتاب المبين أنزل في ليلة مباركة، وهذه الليلة المباركة هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وكلنا يعرف تلك الليلة المباركة من قوله – جل وعلا -: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}5.

فمن اعتقد ذلك في ليلة النصف من شعبان فقد خالف صريح القرآن، وغلا أيما غلو.

ومن الغلو أيضاً تخصيص نهارها بصيام، أو ليلها بقيام وعبادة، وما ورد في ذلك كما يقول أهل العلم إما ضعيف، وإما موضوع مختلق لا يثبت عن النبي – صلوات ربي وسلامه عليه -.

ومن الغلو أيضاً صلاتهم مئة ركعة يسمونها الصلاة الألفية، وفي كل ركعة يقرؤون سورة الإخلاص عشر مرات أو إحدى عشرة مرة، وزعموا أنها تقضي حوائج الناس، والحديث موضوع كما يقول أهل العلم.

فهؤلاء ممن غلو يا معاشر المؤمنين، وممن جعل فيها من المزايا والقربات والطاعات ما لم يأذن به الله – عز وجل .

وفريق آخر لما رأى ما لم يثبت فيها، والغلو الحاصل فيها؛ جعلها ليلة عادية كغيرها من الليالي، وجعلها ليلة لا مزية فيها، وذلك الجفاء.

أيها المؤمنون عباد الله: إن ليلة النصف من شعبان قد ثبت في فضلها حديث صحيح ثابت إلى المعصوم – صلوات ربي وسلامه عليه – ذاك هو حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه – وهو عند ابن حبان في صحيحه يقول: ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن))6، فهذا الحديث الثابت معاشر المؤمنين بيَّن فيه المصطفى أن ليلة النصف من شعبان يغفر الله – عز وجل – للمؤمنين، ويطلع عليهم؛ إلا المشرك أو المشاحن، فمن أراد أن يفوز بهذا الأجر العظيم، وهذا الفضل العظيم؛ فما عليه إلا أن يحقق هذين الشرطين.

فلست مطالباً أيها العبد المؤمن بقيام ولا بصيام، فضلاً عن عمرة أوعبادة ونحو ذلك، وكل ما أنت مطالب به أن تحقق التوحيد، وأن تنقي قلبك من الشرك وشوائبه، وأن تتعاهد ذلك باستمرار.

وبعض الناس إذا ذكر الشرك يشمئز، ويعقتد أنه متهم، والبعض الآخر إذا ذكر الشرك عندهم ظنَّ نفسه بمأمن منه وعنه، والواقع أيها المؤمنون أن أنبياء الله ورسله كانوا يخافون على أنفسهم من الوقوع في الشرك، أو ألوانه وأنواعه، ومن ذلك دعاء الخليل – عليه السلام – الوارد في الكتاب الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}7، وكان من دعاء النبي – عليه الصلاة والسلام -: ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))8.

والشرك معاشر المؤمنين ينبغي على العبد أن يخافه ويحذره، كيف لا وقد أوحى الله إلى كل نبي وكل رسول حكمه في هذا الأمر المنكر العظيم فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}9، فإذا كان هذا الخطاب موجهاً لإمام الأنبياء والمرسلين، وسيد الموحدين – صلوات ربي وسلامه عليه -؛ فكيف لا يخاف الشرك من كان دونه من المؤمنين.

أيها المسلمون عباد الله: أن الشرك قسمان لا ثالث لهما: شرك في العبادة والقصد، وشرك في الطاعة والاتباع، فاعلم هذا يا من تريد أن تفوز بثواب ليلة النصف من شعبان التي يطلع الله – عز وجل – فيها إلى جميع خلقه فيغفر لهم إلا لمشرك أو مشاحن.

وما أكثر ألوان الشرك في العبادة معاشر المؤمنين، فالطواف حول القبور في كثير من البلدان الإسلامية ينقل في بعض الأحيان على الهواء مباشرة، وكذلك الذبح للأولياء والسادة، والذبح للجن معظم متبع في كثير من الديار التي تدعي الإسلام، بل وتحتفل بليلة النصف من شعبان، والنبي – صلى الله عليه وسلم – أخبرنا أن الله يغفر لجميع خلقه دون سؤال منهم، ودون طلب؛ إلا لمشرك أو مشاحن.

ولو ذهبت أسترسل وأسترسل في ألوان الشرك في العبادة لطال بنا المقام، وهي لا تخفى على أمثالكم.

أما الشرك في الطاعة والاتباع فما أعظمه، وما أشد خطره، وقد انتشر وخفي أمره على كثير من الناس إلا من رحم الله بعلم.

وفقه الشرك في الطاعة والاتباع معاشر المؤمنين أصله كما بينه نبينا – صلى الله عليه وسلم – لعدي بن حاتم الذي كان نصرانياً، فلما أسلم وسمع قول الله – عز وجل -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} أشكل ذلك على عدي، فقال: يا رسول الله ما عبدناهم! أي كنت نصرانياً ولم نعبدهم أبداً، وظن أن العبادة بمفهومها المعتاد عند الناس من صلاة وسجود ونحو ذلك، فبين له النبي – صلى الله عليه وسلم – كيف كانت عبادتهم لأحبارهم ورهبانهم بقول أنهم كانوا إذا أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال اتبعوهم، فتلك عبادتهم، وما أشبهنا اليوم بالنصارى في ديار الإسلام وأقطاره، يتبع الناس علماءهم في تحليل أعظم ما حرم الله – عز وجل – كالربا وأنواعه وألوانه فيقعون في الربا وصوره، وإن قلت له: اتق الله – عز وجل – قال: أحلها العالم فلان بفتواه كذا وكذا.

فاعلموا هذا معاشر المؤمنين، واتقوا الله – عز وجل -، ولا تفوتوا على أنفسكم فرصة كهذه؛ فعن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يطلع إلى خلقه في النصف من شعبان فيغفر لهم إلا لمشرك أو مشاحن))10، فنقِ قلبك من الشرك وشوائبه.

وأما الشحناء وما أدراكم ما الشحناء؟ فإن شرها عظيم، ووبالها يعم ولا يخص، ألم يخرج نبينا – صلوات الله وسلامه عليه – ذات يوم بخبر ليلة القدر، فتلاحى رجلان فرفع خبرها ونبأها، رفعت تلك البركة عن الأمة إلى قيام الساعة بسبب ملاحاة رجلين وخصومة اثنين من الصحابة، فما ظنكم بما يقع في أيامنا هذه من خصومات ومشاحنات، ومن كان له مشكلة بالقضاء فإنه سيقف على ما يشيب له الولدان، لا أقول مشاحنات بين الشركاء أو الجيران بل والله بين الأشقاء، بل بين الابن وأبيه، والرجل وأمه، مشاحنات ومرافعات وقضايا.

أين هؤلاء جميعاً من هذا الحديث ومن حديث مسلم الثابت عنه: ((تفتح أبواب الجنة يوم الخميس ويوم الاثنين، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً بينه وبين أخيه شحناء، يقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا))11.

معاشر المؤمنين: إن فضل الله – عز وجل – جد واسع، وهو عظيم، ومن فضله هذه الليلة المباركة فتفقد قلبك، وراجع توحيدك، ونق قلبك نحو إخوانك، ولا تبيتين الليلة وبينك وبين مسلم خصومة أو شحناء عسى الله – عز وجل – أن يغفر لنا ذنوبنا جميعاً، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والرسل أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد:

فقد انتصف شهر شعبان معاشر المؤمنين، وشهر شعبان كما أخبر الصادق المصدوق – صلوات ربي وسلامه عليه – فعن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))12 فبيَّن صلوات ربي وسلامه عليه سبب إكثاره من الصيام في هذا الشهر المبارك، وأول سبب أنه شهر يغفل الناس عنه أي عن الصيام فيه.

والأوقات المباركة التي يغفل الناس فيها عن العبادة يزداد فيها تشمير المؤمن، وحرصه على الطاعة، فلماذا يغفل الناس عن شعبان؟

لأنه بين رجب ورمضان، أما رجب فهو أول الأشهر الحرم، وكانت العرب تعظم رجباً، وسمي رجب من الترجيب وهو التعظيم، ورمضان شهر الخير والقرآن، فغفل الناس عن شعبان لوقوعه بين هذين الشهرين العظيمين.

ثم إنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، الرفع الحولي، فأراد – صلى الله عليه وسلم – أن يرفع عمله وهو صائم، وتقول أقرب الناس إليه، وأحبها إلى قلبه أمُّنا عائشة – رضي الله عنها – وأرضاها في الحديث المتفق على صحته: ((كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان))13، فلم يكن يصوم – صلى الله عليه وسلم – من الأشهر ما يصوم من شعبان يستقبل به شهر الصيام والعبادة.

ولطيفة من لطائف أهل العلم معاشر المؤمنين يقولون: إن الصيام قبل رمضان – أي: صيام شعبان – والإكثار منه، والصيام بعد رمضان كصيام الست من شوال؛ بمثابة القبلية والبعدية في الفروض، فكما أن القبلية والبعدية أفضل من مطلق النافلة؛ فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده أفضل من مطلق الصيام، فاحرصوا – رحمني الله وإياكم – على الصيام في هذا الشهر المبارك، وحثوا أبناءكم وأهليكم، ودربوهم وعودوهم على هذه الطاعة، فكثير من الناس الذين لا يعرفون الصيام إلا في رمضان في أول أيام الشهر يصابون بدوخة، وبعضهم بإغماء، ويثقل عليهم الصيام لأنهم ما تعودوا عليه، ولا رغبوا فيه، فهذه فرصة مباركة معاشر المؤمنين فالبدار البدار.

عباد الله: يقول رب العزة والجلال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }14، ويقول: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}15, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون، وأقم الصلاة.


 


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة النساء (1).

3 سورة الأحزاب (70-71).

4 سورة الدخان (1-4).

5 سورة القدر (1-3).

6 مجمع الزوائد (8/126) برقم (12860)؛ وقال الألباني: حسن صحيح, صحيح الترغيب والترهيب (1/248) برقم (1026)؛ صحيح الترغيب والترهيب (3/33 ) حسن صحيح برقم (2767).

7 سورة إبراهيم (35).

8 الأدب المفرد (1/250) برقم (716)؛ ومسند أبي يعلى (1/60)، وقال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف.

9 سورة الزمر (65).

10 قال المنذري: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما الترغيب والترهيب (3/391)؛ والحديث مروي عن عدة من الصحابة وهم: معاذ بن جبل، وأبو ثعلبة الخشني، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأبو بكر الصديق، وعوف بن مالك، وعائشة، وقال الألباني: صحيح بمجموع طرقه السلسلة الصحيحة برقم (1144)؛ وصححه في إصلاح المساجد (99)؛ وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، مسند أحمد (10/127)؛ ومسند الشاميين (1/130) برقم (205).

11 صحيح مسلم (4/1987) برقم (2565)؛ ومسند أحمد بن حنبل (2/400)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

12 سنن النسائي (4/201) برقم (2357)؛ ومسند أحمد بن حنبل (5/201)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن برقم (21801)؛ وسنن النسائي الكبرى (2/120) برقم (2666)، وحسنه الألباني.

13 صحيح البخاري (2/695) برقم (1868)؛ وصحيح مسلم (2/809) برقم (872)؛ وسنن النسائي الكبرى (2/172) برقم (2908).

14 سورة النحل (90).

15 سورة النحل (91).