الابتلاء بالخير والشر

 

الابتلاء بالخير والشر

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}2، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}3، أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله ​​​​​​​ ، وخير الهدي هدي محمد  ،وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون عباد الله: إن من سنن الله – تبارك وتعالى – في هذا الكون التي لا تتغير ولا تتبدل سنة الابتلاء في هذه الحياة, يبتلى الإنسان في هذه الحياة الدنيا تارة بالخير، وتارة بالشر قال الله – تبارك وتعالى -:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}4 قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في قوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى؛ لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس  : {وَنَبْلُوكُم} يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال”5 أ. هـ, وقد يبتلي الله – تبارك وتعالى – الإنسان بشيء ظاهره الشر لكنه في حقيقته خير كثير, وقد يكون عكس ذلك تماماً قال – تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}6

قال العلامة ابن سعدي – رحمه الله – في تفسير الآية: “هذه الآية فيها فرض القتال في سبيل الله بعدما كان المؤمنون مأمورين بتركه لضعفهم، وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي   إلى المدينة، وكثر المسلمون، وقووا؛ أمرهم الله -تعالى – بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس، لما فيه من التعب والمشقة، وحصول أنواع المخاوف، والتعرض للمتآلف، ومع هذا فهو خير محض لما فيه من الثواب العظيم، والتحرز من العقاب الأليم، والنصر على الأعداء، والظفر بالغنائم؛ وغير ذلك مما هو مرب على ما فيه من الكراهة {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة فإنه شر لأنه يعقب الخذلان، وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله، وحصول الذل والهوان، وفوات الأجر العظيم، وحصول العقاب, وهذه الآيات عامة مطردة في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك, وأما أحوال الدنيا فليس الأمر مطرداً، ولكن الغالب على العبد المؤمن أنه إذا أحب أمراً من الأمور؛ فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه؛ أنه خير له، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله – تعالى – أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه كما قال – تعالى -: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره سواء سرتكم أو ساءتكم”7.

أيّها المسلِمون عباد الله: عندَما ينزِل البلاء، وتحُلّ المحن، وتدلهم الخطوب،وتعم الرزايا؛ تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتلتاث عقولهم، وتطيش أحلامهم، فإذا  بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذي يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون،

وهنالك تقَع الحيرة، ويثور الشكّ، وتروج سوقُ الأقاويل، وتهجَر الحقائق والأصول، وتُتَّبع الظّنون، وما تهوى الأنفس، ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ، ولا هدىً، ولا كتاب منير، وفي معامِع الغفلةِ ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله في الابتلاء ماضيةٌ في خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم، وكيفَ ينسى ذلك وهو يَتلو كتاب ربِّه – تبارك وتعالى – بالغداة والعشيّ، وفيه بيانُ هذه الحقيقة بجلاءٍ لا خفاءَ فيه، ووضوحٍ لا مزيد عليه، حيث قال – سبحانه -: {الـم * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ}8، وقال الله ​​​​​​​ : {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأمُورِ}9،

وقال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلأمَوَالِ وَٱلأنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ}10.

أيها المسلمون عباد الله: ولقد كان من البلاء – بل من أشده – على الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم -؛ موت النبي – صلى الله عليه وسلم – قال الله في كتابه الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}11 وهذه الآية كانت إرهاصاً وإشارةً وتقدمةً لموت رسول الله  ؛ فليستعد المسلمون لاستقبال موت رسولهم وحبيبهم  ، ولكن منهم من وعى الآية وعقلها وحفظها، ومنهم من لم يكد يتصور أن نبيه سوف يموت   مع توافر الآيات في هذا الباب كقوله – تعالى -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}12، وكقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}13، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}14،

ومع ذلك لم يكد بعض الصحابة يتصور أن النبي   سيموت، فقدم الله ذكر ذلك في غزوة أحد تمهيداً لوفاة رسول الله  ، فليستعد المستعد، وليتأهب المتأهب قال الله – جل ذكره -: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}15، هذا شأنه: أنه بشر، لكنه رسول من عند الله {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي: مضت من قبله الرسل، رسول كشأن سائر المرسلين: إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، وإخوانه من المرسلين، فهو ليس إلهاً، ولا ملكاً، ولا من حملة العرش، بل هو رسولٌ قد خلت من قبله الرسل، يموت كما يموتون، ويبتلى كما يبتلون, وهذه الآيات نزلت في غزوة أحد لما تفشى في الناس أن النبي   قد قتل، عن البراء   قال: “لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي  جيشاً من الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله، وقال: ((لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)) فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد إليَّ النبي   أن لا تبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوهم، فأصيب سبعون قتيلاً، وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: ((لا تجيبوه))، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: ((لا تجيبوه))، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي  : ((أجيبوه)) قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا الله أعلى وأجل))، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم, قال النبي  :((أجيبوه))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا الله مولانا، ولا مولى لكم))، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني”16، وقد انتشر بين الناس أن النبي   قتل، فحزن قومٌ لذلك أشد الحزن، وقال فريقٌ منهم: وما لنا في الحياة بعد موت نبينا  ؛

وتقدموا للقتال، وحزن آخرون واستكانوا، فعاتب ربنا الجميع فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}17,

فلما مات رسول الله   بعد ذلك في الأجل الذي كتبه الله له وحدده؛ وأخبر عمر بموت الرسول  لم يصدق، وذهب ينهر ويزجر من زعم أن النبي  قد مات، وقال: إنه سيرجع ويقطع أيدي رجالاً وأرجلهم، وأبى أن يقر بموت رسول الله  ، والناس من حوله يلتفون؛ فجاء أبو بكر   ذلكم البار الراشد، العاقل الحافظ، فقال: أيها الرجل المتكلم على رسلك، فالتف الناس حول أبي بكر، وتركوا عمر – رضي الله عنهم جميعاً -، فقال: أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}1819 فلم يملك عمر نفسه، وعلم أن الأمر قد وقع.

فلا ينبغي أن تعلق عبادتك على موت شخص أو حياته أياً كان هذا الشخص، وأياً كانت منزلته وقدرهُ، فربك – تبارك وتعالى – حيٌ لا يموت، قريبٌ يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، يقترب منك ذراعاً إذا اقتربت منه شبراً، ويقترب منك باعاً إذا اقتربت منه ذراعاً، ويأتيك هرولة إذا أتيته تمشي، فكن على صلة بربك، وكن على ثقة به – سبحانه جل جلاله -، قال – تعالى -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه}20، فلماذا الحزن والهم؟ ولماذا النكد والجبن؟ ولماذا الخوف؟ الأرزاق مقسومة، والآجال مقدرةٌ مضروبة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ}21, بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة،قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العزيز الغفار، معز المؤمنين بنصره، مذل المشركين بقهره، والصلاة والسلام على البشير النذير  ، أما بعد:

أيها المسلمون: إن المتأمل في واقع هذه الأمة وما وصلت إليه من الانحطاط، والذل والهوان، وتكالب الأعداء عليها من كل جانب؛ يدرك الخطر الذي تمر به بسبب بعد الأمة عن هدي ربها، وسنة نبيها ، وتفريطها بذلك فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله   يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))22, وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: “أقبل علينا رسول الله   فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم, ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا, ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض مافي بأيديهم, وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم))23

ففي هذين الحديثين يتبين أنه لا مخرج لأمة الإسلام إلا بالتزامها بكتاب ربها، وسنة نبيها – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -, وما نراه يجري من ابتلاء على أراضي المسلمين من قتل وتشريد، وتدمير وتخريب, وتجويع وإرعاب, ينامون على أزيز الإنفجارات ويستيقظون عليه, بعضهم قد أنهدم منزله عليه, وبعضهم لا مأوى له ولا فراش, يفترش الأرض، ويلتحف السماء, ما هذا كله إلا بسبب تخاذل المسلمين، وبعدهم عن منهج ربهم – تعالى -.

أيها المسلمون عباد: إن هذا الواقع المرير يجعل القلب يتفطر كمداً, ويجعل العين تبكي الدم لا الدمع, ومع ذلك نقول لإخواننا الذين أصابهم ذلك قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ}24, فهذه محنة ومنحة في الوقت نفسه، وذلك يرفع منزلتكم عند ربكم – تبارك وتعالى -،ويالها من كرامة عظيمة.

فاصبــر لكل مصيبةٍ وتجلّد واعلـــم بأن المرء غير مخلّدِ
واصبر كما صبر الكرام فإنها   نوبٌ تنوب اليوم تُكشف في غدِ
أو ما ترى أن المصائب جمة؟ وترى المنيـــة للعباد بمرصدِ
من لم يُصب ممن ترى بمصيبةٍ؟ هذا سبيلٌ لســت عنه بأوحدِ
فإذا ذكرت مصيبةً ومصابهـا    فاذكر مصابك بالنــبي محمدِ25

أيها المسلمون عباد الله: عليكم بكثرة الدعاء لإخوانكم, دعاء لهم بالصبر والثبات فإنهم يمرون ببلاء عظيم, وعليكم القيام بمواساتهم بالمال فذلك من الجهاد في سبيل الله.

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}26.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين, اللهم انصر من نصر الدين, واخذل من خذل المسلمين, اللهم اربط على قلوب إخواننا المستضعفين في فلسطين وفي كل مكان، وثبت أقدامهم, وأهلك أعداءهم يا قوي يا قادر, اللهم وحسن أحوالهم, اللهم وفقنا لكل خير برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا أتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنظروا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. وأقم الصلاة.


 


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة النساء (1).

3 سورة الأحزاب (70-71).

4 سورة الأنبياء (35).

5 تفسير ابن كثير (5/342).

6 سورة البقرة (216).

7 تفسير السعدي (1/96).

8 سورة العنكبوت (1-3).

9 سورة آل عمران (186).

10 سورة البقرة (155-157).

11 سورة آل عمران (144).

12 سورة الزمر (30-31).

13 سورة الأنبياء (34).

14 سورة آل عمران (185).

15 سورة آل عمران (144).

16 رواه البخاري برقم (3817).

17 سورة آل عمران (144).

18 سورة آل عمران (144).

19 والقصة مروية عند الإمام البخاري في صحيحه برقم (3467) من حديث عائشة رضي الله عنها.

20 ِسورة آل عمران (145).

21 سورة محمد (31).

22 رواه أبو داود برقم (3462)؛ والبيهقي في السنن الكبرى برقم (10484)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (11).

23 رواه ابن ماجه في سننه برقم (4019)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (13938)؛ وصححه في صحيح الجامع برقم (7978)؛ وحسنه في السلسلة الصحيحة برقم (106)، وفي صحيح ابن ماجة برقم (3246).

24 سورة محمد (31).

26 سورة الأحزاب (56).