كتاب النبي إلى النجاشي

كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى النجاشي

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد سلكت الدعوة إلى الله مراحل كثيرة في بداية الإسلام، وتعددت لتصل إلى الهدف السامي الذي يأمله حاملو راية الإسلام، على صدرهم رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-.

وبعد أن كانت محصورة في شعب أبي طالب صارت مجاهدةً في بدر وأحد، بل ومنتصرةً يوم الأحزاب، بل وفاتحةً يوم خيبر والنضير..، بل إنها تحولت من الجزيرة العربية إلى خارجها عبر الرسائل والمكاتبات، فتشكلت لها صورة حديثة لم تكن عُهدت من قبل، ومن ذلك ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الملوك والزعماء من حوله، وهنا نستوقف أنفسنا لنلحظ بعض تلك المكاتبات التي بعثها النبي -صلى الله عليه وسلم-.

فمن ذلك: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الحبشة النجاشي الأصحم بن أبجر:

نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث كتاباً إلى الملك النجاشي يدعوه فيه إلى الإسلام والإيمان بالله وتوحيده والإقرار بما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-، حمله إليه عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه- فلما وصل إليه قال له: يا أصحمة إن عليَّ القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منَّا، وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرًا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاضٍ لا يجور، وفى ذلك الموقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجُهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، لخير سالف، وأجر ينتظر.

فقال النجاشي: أشهد بالله أنه للنبي الذي تنتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر1.

وقد كان نص الكتاب كما ذكر أهل السير كما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمى جعفرًا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءوك فاقرهم، ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله -عز وجل-، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى2. وفي بعض الروايات جاء أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(64) سورة آل عمران، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك"3.

ولما وصل الكتاب إلى ملك الحبشة، ومثل بين يديه رسولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه- وقرأه عليه، أبدى موافقته وقبوله، فقد ظهر إسلامه من قبل حيث وقد وفد إليه المهاجرون الأوائل قبل الهجرة إلى المدينة، بإمارة جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

ومن بوادر إسلامه، ومظاهر إكرامه لكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ظهر من كلامه أنه أسلم، وأتبع ذلك بكتابه، ولين القول وحسن اللفظ في جوابه، وإخباره برغبته في زيارة النبي الأمين، ليمسح على نعاله باليمين، كان هذا في ختام رسالته، وفحوى عبارته التي أرسل مع فلذة كبده أريحا حيث قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا رسول الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق4.

فهذا كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك الحبشة دعاه فيه إلى الإسلام، والإيمان بما جاء به، وقد تبينت فيه عظمة هذا الدين، وما فيه من حرص على الدعوة إلى الله، وإبلاغ الحجة، وتوضيح المحجة.

وبعد جواب النجاشي ومعرفة إسلامه لدى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان قبلُ آوى المسلمين الذين هاجروا إليه في زمن الاستضعاف على رأسهم جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأكرمهم وأحسن قراهم، وأباح لهم بلاده، وأتاح لهم سبل العبادة، واستضافهم فأحسن ضيافتهم، فعاشوا في رغد عيش وسعة، وراحة ودعة، حتى ارتحلوا عنه.

ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، جازاه بالإحسان إحساناً،  فأثنى عليه ودعا له، وأكرم وفده حين جاء إليه فعن أبي قتادة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: (إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم)5.

ولما مات النجاشي استغفر له وصلى عليه حين مات كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ)، وقال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعً6. جزاء وفاقاً.

وهذه القصة التي قد سطرتها لنا رؤوس الأقلام على بطون الأوراق تنقل لنا عبراً وفوائد دعوية واجتماعية وخلقية، وقيادية وما لا حصر له في وقت يسير من المعالم الدالة على كمال الخلق والخُلُق النبوي المتمثل في صورته وحياته -صلى الله عليه وسلم-، من هذه الفوائد:

·       حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة إلى الله وإبلاغ الحجة لكل أحد من أمة الدعوة، ليحقق المعنى الذي أرسل به، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء.

·       استحداث الوسائل الممكنة لتأدية الغرض، والقيام باللازم من أمور الدعوة إلى الله، وذلك باستخدام أسلوب المراسلة وصنع الخاتم وغير ذلك.

·       تغيير الخطاب بما يوافق الحال والمخاطب؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن كتابه إلى رجل نصراني فلذلك أرسل إليه بكلام يبين حقيقة عيسى -عليه السلام- كما جاء في كتاب الله تعالى.

·       وضوح الدعوة وصراحة الخطاب، وهذا كما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله).

·       الإخبار بالجزاء لمن استجاب وأسلم، كما ذكر له النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله.. وقوله له: أسلم تسلم، حتى يكون على بينة بما له بعد الإسلام.

·       كما أنه أخبر بما يكون للداخل في الإسلام فكذلك أخبره بما عليه لو لم يسلم؛ لتحقق إقامة الحجة والبرهان عليه، ومن أنذر فقد أعذر، ويؤخذ هذا من كلامه -عليه الصلاة والسلام- حين قال: فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك، فلا حجة لمستكبر، ولا عذر لمستنكر سيما وقد ورد الخطاب النبوي والكتاب الدعوي.

·       مقابلة الجميل بالجميل عادة من أشرف الخصال، وخلة من مكارم الأخلاق سمت بها النفس النبوية، واتسمت بها الأخلاق الربانية، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- حقيقاً بتمثله بها، وأن تكون سجيته مجبولة عليها.

·       استحباب الابتداء باسم الله تعالى في بداية كل خطاب ورسالة وكتاب، حيث ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم رسالته هذه وغيرها باسم الله تعالى.

·       الثناء على الله بما هو أهله في بداية الأمور كالرسائل والخطابات والكتابات والدعاء والصلاة ونحوها مما ورد الشرع بذكره، كل ذلك مرغب فيه.. فقد ورد في رسالة النبي إلى النجاشي: (فإني أحمد إليك الله… إلخ).

·       مشروعية الصلاة على الميت الغائب الذي لم يُصلَّ عليه.

وثمة فوائد جمة، وفيما غبر كثير من العبر، ما على الحريص إلا إعمال حرصه، وتشمير نزعة نفسه لمعرفة المزيد، واستكمال جوانب التجديد.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمكن لعباده الصالحين في أرضه، وأن يهيئ للأمة عالماً ربانياً يقودها إلى الحق على سنة المصطفى، والحمد لله وكفى.


 


1 عيون الأثر لابن سيد الناس: (2/329).

2 السيرة النبوية لابن كثير: (2/42).

3 دلائل النبوة للبيهقي: (2/187)، السيرة النبوية لابن إسحاق: (1/81).

4 سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: (11/366).

5 السيرة النبوية لابن كثير: (2/31).

6 صحيح البخاري: (1242)، وصحيح مسلم: (1581).