تذكير الناس بيوم المعاد

تذكير الناس بيوم المعاد

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(الأحزاب:70- 71).

أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس عباد الله: مهما عاش الإنسان في هذه الحياة، ومهما طال البقاء به، واستمتع بشهواتها وملذاتها؛ فإن المصير واحد، والنهاية محتومة، ولابد لكل إنسان من نهاية، وهذه النهاية هي الموت الذي لا مفر منه قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(العنكبوت:57)

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته    يوماً على آلةٍ حدباء محمول

لابد من يوم ترجع فيه الخلائق إلى الله تبارك وتعالى ليحاسبهم على ما عملوا في هذه الدنيا قال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(البقرة:281), هذا اليوم الذي طالما نسيناه، يومٌ هو آخر الأيام، تشيب فيه الولدان, وتُغَصُّ فيه الحناجر، فلا يوم قبله مثله، ولا يوم بعده مثله، إنه اليوم العظيم الذي كتبه الله تبارك وتعالى على كل صغير وكبير، وعظيم وحقير، اليوم المشهود، واللقاء الموعود قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران:185).

وقبل هذا اليوم لحظة ينتقل فيها الإنسان من دار الغرور إلى دار دائمة أبد الدهور، من الدار الفانية إلى الدار الأبدية، وكل بحسب عمله، تلك اللحظة التي يُلقي فيها الإنسان آخر النظرات على الأبناء والبنات، والإخوة والأخوات، يُلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه السكرات، فتخرج من قلبه الآهات والزفرات قال الله تبارك وتعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ}(الواقعة:83-85), إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة هذه الدنيا، إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرط فيها في جنب الله تبارك وتعالى فهو ينادي ربه: يا رب يا رب {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون:99-100), تلك اللحظة الحاسمة، والساعة القاصمة التي يدنو فيها ملك الموت لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادي نداء النعيم، فيبشر برضوان الله تبارك وتعالى، أو ينادي نداء الجحيم فيبشر بغضب الله تبارك وتعالى؟

قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في قصيدته:

كأنني بين تلك الأهل منـطرحاً             على الفــراش وأيديهم تقلِّبني

وقد تجمَّع حولي من ينوح ومـن           يبكي عـــليَّ وينعاني ويندبني

وقد أتوا بطبيب كــي يعالجني            ولم أر الطــب هذا اليوم ينفعني

واشتد نزعي وصار الموت يجذبها            من كـل عرق بلا رفق ولا هون

واستخرج الروح مني في تغرغرها           وصـار ريقي مريراً حين غرغرني

وغمضوني وراح الكل وانصرفوا           بعد الإياس وجدُّوا في شرا الكفن

أيها المؤمنون عباد الله: إن الغربة الحقيقة هي غربة اللحد والكفن، فهل تذكرت عبد الله انطراحك على الفراش، وأيدي الأهل تقلبك، قد اشتد نزعك، وصار الموت يجذبك من كل عرق، والتفت الساق بالساق، ثم أسلمت الروح إلى باريها تبارك وتعالى، فقدموك بعد ذلك ليصلى عليك، وأنزلوك قبرك وحيداً فريداً {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}(القيامة:26-36), هناك حيث لا أم تقيم معك، ولا أب يرافقك، ولا أخ يؤنسك؛ هناك يحس المرء بهذه الدار الغريـبة، وتلك المنازل الرهيبة، وفي لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم إن كان ممن تاب وآمن وعمل صالحاً، أو إلى دار الجحيم والعذاب الأليم إن كان ممن أساء العمل وعصى المولى تبارك وتعالى

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها             إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طــاب مسكنه             وإن بنـاها بشر خاب بانيها

أموالنا لذوي الميـراث نجمعها              ودورنـا لخراب الدهر نبنيها

أين الملوك التي كانت مسلطنـة             حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

فاعمل لدار غداً رضوان خازنها             والجـار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهب والمسك تربتـها             والزعفران حشيش نابت فيها

أيها المؤمنون: عند ذاك تكون صفحات اللهو في دار الغرور قد طويت {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران:185)، وظهر للعبد هول البعث والنشور، فقد مضت الملهيات والمغريات وانتهت, وبقيت التبعات والحسرات, فلا إله إلا الله من ساعة تطوى فيها صحيفة العبد إما على الحسنات والخيرات, أو على السيئات والمنكرات، ويحس فيها بالألم والحسرة بقلب متقطع على أيام غفل فيها كثيراً عن الله تبارك وتعالى، والاستعداد لليوم الآخر، فها هي الدنيا بما فيها قد انتهت أيامها، ومضت سريعاً، وها هو الإنسان يستقبل أمام عينيه معالم الجِّد، ويسلم روحه لباريها سبحانه، لينتقل إلى الدار الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة, وفي لحظة واحدة يصبح الإنسان كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً, لا إله إلا الله ما أرهب الساعة التي ينزل فيها الإنسان أول منازل الآخرة، ويستقبل فيها الحياة الجديدة، في عيشة سعيدة هنيئة، أو حياة نكيدة بغيضة عياذاً بالله قال – تعالى -: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}(هود:106-108).

لا إله إلا الله من دار تقارب سكانها، وتفاوت عمَّارها، فقبر يتقلب صاحبه في النعيم والرضوان المقيم، وآخر في دركات الجحيم والعذاب الأليم، فهو ينادي ويستغيث لكن لا مجيب، وهو يستعطف لكن لا مستجيب: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}(الزخرف:77).

ثم يأتي بعد ذلك اللقاء الموعود، واليوم المشهود الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون، فينفخ الملك في الصور، ويخرج الموتى من تلك الأجداث والقبور إلى ربهم تبارك وتعالى حفاة عراة غرلاً، لا أنساب بينهم، ولا أحساب، ولا جاه، ولا مال؛ كلهم سواسية قال الله – تبارك وتعالى -: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}(المؤمنون:101-104), ذلك اليوم الذي يجمع الله تبارك وتعالى فيه الأولين والآخرين، اليوم الذي تبدد عنده الأوهام والأحلام، اليوم الذي تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموزاين، اليوم الذي يفر فيه المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، اليوم الذي يود المجرم لو يفتدي فيه من العذاب ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}(عبس:33-42), وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}(النازعات:34-46).

فيا أيها المؤمنون عباد الله: إن العاقل من أعدَّ العدة لهذا اليوم، العاقل من جعله نصب عينيه, وسارع لمرضات ربه تبارك وتعالى, وأقلع وتاب من الزلل, وهذا ربنا تبارك وتعالى يدعونا ويأمرنا في كتابه الكريم بالتوبة والإنابة إليه سبحانه فيقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(النور:31), ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التحريم:8), وقد وعد سبحانه التائب الصادق بالقبول فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الشورى:25), وفتح باب الرجاء لعباده فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(الزمر:53) هذه ذكرى لمن كان له قلب {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى}(الأعلى:9-10).

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين, عز فارتفع، وعلا فامتنع، وذلَّ كل شيء لعظمته وخضع, لا راد لما أراد وقدر, معز من أطاعه واتقاه, القائل في كتابه الكريم: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(النساء:13), ومذل من خالف أمره، وتنكب صراطه فعصاه, وتوعده بالعذاب والخسران, وإسكانه دار الخزي والهوان فقال: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(النساء:14), والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير, من أخرجنا الله تبارك وتعالى برسالته من الظلمات إلى النور محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا أخي الحبيب يا من تعصي الله تبارك وتعالى: تصور نفسك وأنت واقف بين الخلائق، يُنادى باسمك: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله تبارك وتعالى، فقمت وأنت ترتعد، وتضطرب قدمك وجميع جوارحك من شدة الخوف، قد تغير لونك، وحلَّ بك من الهم والغم والقلق ما الله به عليم.

تصور وقوفك بين يدي رب السموات والأرض، وقلبك مملوء من الرعب، وأنت خائف، خاشع ذليل, قد أمسكت صحيفة عملك بيدك، فيها الدقيق والجليل، فقرأتها بلسان كليل، وقلب منكسر، وداخلك الخجل والحياء من الله تبارك وتعالى الذي لم يزل إليك محسناً، وعليك ساتراً, فبالله عليك بأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح عملك، وعظيم جرمك؟ وبأي قدم تقف غداً بين يديه؟ وأي عين تنظر إليه؟ وأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل، ومسائلته وتوبيخه؟ قال الله تبارك وتعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}(الكهف:49), وكيف بك إذا ذكرّك مخالفتك له، وركوبك معاصيه، وقلَّة اهتمامك بنهيه ونظره إليك، واغترارك بدنياك, وعدم العمل لمرضاته تبارك وتعالى؟

عبد الله: ماذا تقول إذا قال لك رب العزة والجلال: عبدي ما أجللتني، أما استحييت مني؟ استخففت بنظري إليك؟ ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك؟ ما غرك بي؟ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}(الانفطار:6-8).

عبد الله: تذكر أهل الصالحات حين يخرجون من قبورهم قد ابيضت وجوههم من آثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم الوهاب {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(آل عمران:107), فما أعظم مقامهم حين تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.

ثم تذكر إذا نودي خذوهم إلى جنات النعيم، إلى الرضوان العظيم، فأصبحوا بحمد الله في عيشة راضية، وفتحت لهم الجنان، وطاف حولهم الحور العين والولدان، وذهب عنهم النكد والنصب، وزال عنهم العناء والتعب.

وتذكر في المقابل تلك النفس الظالمة المعرضة عن منهج الله تبارك تعالى، والعاصية له؛ إذا نودي خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، فوقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نار تلظى، وجحيم تغيظ وتزفر، وقد تمنت تلك النفس لو رجعت إلى الدنيا لتتوب إلى الله تبارك وتعالى، وتعمل صالحاً، لكن هيهات هيهات أن ترجع، فكبكبت على رأسها وجبينها، وهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدركات والجحيم، والحسرات والزفرات قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ *  فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}(الحاقة:18-37), فلا إله إلا الله ما أعظم الفرق بين هؤلاء الفريقين، وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}(الانفطار:13-14).

عبد الله يا من تسمع كلامي: قف مع نفسك قليلاً، وحاسبها كثيراً؛ فإن كنت ممن يسارع في الطاعات والقربات، ويتجنب المعاصي والمخالفات؛ فاحمد الله تبارك وتعالى على ذلك، واسأله الثبات حتى الممات، وهنيئاً ثم هنيئاً والله لك ما أنت مقدم عليه بإذن ربك, وإن كنت ممن تباطأ عن الطاعات، وعمل المنكرات؛ فتب إلى الله تبارك وتعالى، وارجع إلى الهُدى، فلا داعي للعناد والإصرار على المعاصي التي ستعرضك لغضب الله تبارك وتعالى وشديد عقابه، فإنك ضعيف مسكين أعجز من أن تطيق شيئاً من هذا عذابه، فإذا كانت الجبال العظيمة لو سيرت بالنار لذابت من شدة حرها، فأين أنت أيها المسكين من تلك الجبال؟ ألا فأنقذ نفسك من النار ما دمت في زمن الإمهال، قبل أن تندم ولا ينفع يومئذٍ الندم، واعلم أن الصبر عن محارم الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا، أيسر بكثير من الصبر على عذابه يوم القيامة.

أيها المؤمنون: إن طريق الاستقامة والالتزام ليس فيه تعقيد وكبت حرية كما يظنه البعض، بل كله سعادة ولذة، وراحة وطمأنينة، وماذا يريد الإنسان في هذه الحياة غير ذلك؟ أما حياة المعصية والآثام فكلها قلق ونكد وحسرة في الدنيا، ثم عذاب وهوان في الآخرة, فالله الله يا عباد الله في التوبة والرجوع إلى رب الأرض والسماء؛ ما زلنا في زمن الإمهال, ولنحسن فيما بقي من أعمارنا عسى أن نُسعد في أخرانا قال الله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}(الأنعام:158).

هذا وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) رواه مسلم برقم (384), اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لنا وارحمنا, وتجاوز عنا يا أرحم الرحمين, اللهم إن أجسادنا ضعيفة لا تقوى على النار وأنت الغفور الرحيم, اللهم إن أجسادنا ضعيفة لا تقوى على النار فحرمها يا الله على النار, اللهم حرِّم أجسادنا على النار, ولا تعذب جسداً صلى لك وصام يا أكرم الأكرمين، ويا رب العالمين, اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم اغفر لهم وارحمهم، وأسكنهم فسيح جناتك يا رب العالمين, اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل, اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين, اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار يا عزيز يا غفار {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(الأعراف:23)، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(الحشر:10)، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة:201), والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.