الكلام على الطعام

 

 

الكلام على الطعام

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق فسوى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، نحمده -سبحانه – على ما أسبغ علينا من النعم، ودفع عنا من النقم، والصلاة والسلام على رسول الله الشاكر الذاكر، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

أيها المسلم الحبيب: لا ينكر نعم الله – سبحانه – عليه إلا معاند جاحد كافر، قد انخلع عن عقله، وركب هواه، وأضلَّه الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، لكنننا نعترف اعتراف المحتاجين الضعفاء الفقراء إلى خالقهم بكل نعمه علينا، ونرجوه – سبحانه – أن يبارك لنا فيها، وأن يزيدنا من فضله، إذ لا غنى لنا عنه طرفة عين.

وإن من نعم الحق – سبحانه – علينا هذا الطعام الذي نأكله، ونغذي به أجسامنا صباح مساء، وقد جعل له الله – سبحانه – الذي رزقنا وأنعم علينا بهذا الطعام في شرعه الإسلامي الحنيف آداباً وأخلاقاً منها ما يجب أن نتخلق بها على مائدة تلك النعمة العظيمة، ومنها ما يُستَحَبُّ لنا أن نتخلق بها.

وفي هذه الكلمة القصيرة نريد أن نبحث في مسألة دار عليها كلام بين العلماء وهي مسألة الكلام على الطعام، وهل ذلك من آداب الطعام أم من مكروهاته، وهذا ما سنحاول التعرف عليه، وقد قسمنا الكلام في المسألة على هذه الفروع التالية:

الكلام على الطعام للتعليم:

عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت في حجر رسول الله  ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: ((يا غلام سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك))1، وعن إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: أن رجلاً أكل عند رسول الله   بشماله فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت)) ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه”2، و”سئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – يوماً وهو يأكل فقال – مازحاً – ما معناه: الواحد منكم يسأل سؤالاً في دقيقة، وجوابه يحتاج إلى ربع ساعة، ثم يستمر السائل في الأكل؛ ويدع الشيخ يجيب، وما عليه لو أن الشيخ ظل يجيب عن الأسئلة إلى أن ينفد الطعام”.

الكلام على الطعام فيما لا فائدة فيه:

وعليه يحمل كلام بعض السلف الذي فيه النهي عن الكلام على الطعام قال ابن القيم: “فائدة: قال إسحاق بن هانىء: “تعشيت مرة أنا وأبو عبد الله وقرابة لنا، فجعلنا نتكلم وهو يأكل، وجعل يمسح عند كل لقمة بيده بالمنديل، وجعل يقول عند كل لقمة: “الحمد لله، وبسم الله”، ثم قال لي: “أكلٌ وحمد خير من أكل وصمت”3.

ووجه سؤال للعلامة المحدث الفقيه الألباني – رحمه الله – يقول: بالنسبة يا شيخ للكلام على الأكل؛ هل فيه نهي؟

الجواب: الكلام على الأكل؟ ما فيه أمر، ولا فيه نهي، الكلام على الطعام كالكلام على غير الطعام؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح. أ.هـ”4.

أولاً: هل ورد نص شرعي صريح في المسألة:

قال الإمام السخاوي – رحمه الله -: “حديث (الكلام على المائدة) لا أعلم فيه شيئاً نفياً ولا إثباتاً، نعم جاءت أحاديث في تعليم أدب الأكل من التسمية والأكل مما يليه، والجولان باليد إن كان ألواناً كالرطب ونحوه، وغير ذلك كإلقاء النوى بين يدي غير آكل تمره مما لعله لا يخلو عن كلام، وربما يلتحق به مؤانسة الضيف؛ سيما بالحض على الأكل، ولكن علل عدم استحباب الكلام على الأكل؛ بأنه ربما يشتغل بالرد فيحصل له ازورار، وفي آخر مناقب الحاكم من قول الشافعي – رحمه الله -: إن من الأدب على الطعام قلة الكلام”5.

وجاءت فتوى للشبكة الإسلامية عن سؤال: “أبحث عن نص أحاديث نبوية شريفة عن التحدث أثناء تناول الطعام، وهل: ((تحدثوا على الطعام ولو على حساب أسلحتكم)) حديث صحيح؟ وشكراً.

الفتوى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فلم نقف على حديث ثابت مرفوع إلى رسول الله   بهذا اللفظ أو بمعناه، ولكن العلماء ذكروا في آداب الطعام أنه ينبغي للآكلين أن يتحدثوا ولا يتكلفوا في ذلك أو يكثروا، قال ابن الحاج في المدخل: وينبغي له ألا يترك الحديث على الطعام، فإن تركه على الطعام بدعة، ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه بدعة أيضاً، ولأنه قد يشغل غيره عن الأكل، والله أعلم”6.

ثانياً: الكلام على الطعام بما فيه فائدة:

كالكلام بحكايات الصالحين وأخبارهم، أو مؤانسة الضيف والجليس، أو ذكر فائدة أوشاردة، أو البشارة بخير، أو نحو ذلك من الكلام الذي لا يخلو من فائدة، ولا يلهي عن شكر النعمة.

ولقد ذكر كثير من الفقهاء والعلماء، وشرَّاح الآداب والأخلاق هذا الخلق، وعدُّوه من آداب الأكل؛ وبوَّب الإمام النووي – رحمه الله – في كتاب الأذكار: “باب استحباب الكلام على الطعام”7، واستدل بكلام النبي   على الطعام كما في حديث جابر – رضي الله عنه – في مسلم أن النبيّ  : سألَ أهلَه الأُدْمَ، فقالوا: ما عندنا إلاَّ خَلّ، فدعا به، فجعلَ يأكلُ منه ويقول: ((نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ، نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ))8، ومما يستدل به على هذا أيضاً ما رواه الإمام البخاري في صحيحه قال: عن أبي هريرة -رضي الله عنه – قال: “كنا مع النبي   في دعوة؛ فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة فقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم… الحديث))9.

ونورد هنا كلام مجموعة من العلماء والفقهاء في استحسان هذا:

قال الغزالي – رحمه الله – ذاكراً آداب الطعام عند الاجتماع: “الثاني: أن لا يسكتواعلى الطعام؛ فإن ذلك من سيرة العجم، ولكن يتكلمون بالمعروف، ويتحدثون بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها”10،

وقال المقدسي – رحمه الله – في مختصر منهاج القاصدين في فصل بعنوان: فيما يزيد في الآداب بسبب الاجتماع والمشاركة في الأكل: “ومنها أن لا يسكتوا على الطعام، بل يتكلمون بالمعروف، ويتحدثون بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها”11، وقال القيرواني المالكي: “ومن الآداب الإكثار من حكايات الصالحين، ومناقب نحو الصحابة، مما يريح الآكل، ويقوي نهمته، وينبئ عن سماحتك، ولاسيما إن كان المصاحب لك ضيفاً”12.

ولازال الفقهاء – رحمهم الله – يذكرون أن من آداب الطعام الكلام عليه، ومؤانسة الضيف بطيب الحديث؛ وكراهة سيئه.

ثالثاً: إن كان في الكلام ضرر على الجالسين:

إن كل ما سبق من كلام الفقهاء واستنباطاتهم يمكن العمل به إذا لم يكن ثمة ضرر على الآكل أو المجاورين له، وإلا حرم عليه الكلام؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار، كأن يتكلم واللقمة في فيه فربما تضرر هو نفسه، أو تضرر الجلوس بجواره بأن تكون طريقته في الكلام غير صحيحة، فيخرج بعض الطعام من فمه على المائدة، أو على غيره من الجلوس، مما يسبب استنكاف البعض عن مواصلة الأكل، وإن كان في حاجة إليه، فينبغي التأمل في هذا الموضع، والله أعلم بالصواب.

مسألة: السلام على الطعام:

ومما قد يتفرع عن هذه المسألة: مسألة السلام والرد على المُسَلِّم، فقد شاع عندكثير من العامة قولهم: “لا سلام على طعام” فهل هذا حديث نبوي أو مقولة شائعة؟

قال العجلوني – رحمه الله – في كشف الخفاء: ” ((لا سلام على أكل)) ليس بحديث،ومعناه صحيح إذا كانت اللقمة في فم الآكل؛ كما قيد به – النووي – في الأذكار، وسبقه إليه إمام الحرمين، وإن أطلق النووي المنع في المنهاج تبعاً للمحرر، ولا يجب الرد حينئذٍ، أما إذا لم تكن اللقمة في فم الآكل فلا بأس بالسلام، ويجب الرد…”13.

مسألة الحلف على الطعام:

ومسألة أخرى تتفرع عن هذه المسألة وهي: الحلف على الطعام، أن تحلف على ضيفك مثلاً أن يأكل، أو يزيد من أكله.

وقد ذكر العلماء – رحمهم الله – هذه المسألة فمنهم من بسط فيها، ومنهم من اختصر،وسنكتفي بما يلي:

قال القيرواني – رحمه الله -: “ولكن لا يحلف عليه؛ لأن بعض الشيوخ قال بكراهة الحلف على الطعام؛ لأن الوارد عنه – عليه الصلاة والسلام – إنما هو قول: ((كل كل كل ثلاثاً))، أو أجاز بعضهم الحلف؛ لأن الشخص ربما يكون خجلاً، ويتوهم عدم سماحتك إلا بالحلف، وإذا حلف على غيره ليأكلن فقيل: يبر بثلاث لقم، وفصّل بعضهم فقال: إن كان في أثناء الأكل وهو الموضوع فيبر بثلاث، وإن يكن في ابتدائه فلا يبر إلا بشبع المحلوف عليه، ويعلم بإقراره”14، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (5061)، ومسلم برقم (5388) واللفظ لمسلم.

2 رواه مسلم برقم (5387).

3 بدائع الفوائد (5/164).

4 جاء في الشريط الخامس عشر من سلسلة الهدى والنور بعد الدقيقة الأربعين والنصف http://fatawa-alalbany.com/adab/hn15_07.rm.html

5 المقاصد الحسنة للسخاوي حديث رقم (811).

6 رقم الفتوى 24608 بعنوان: ترك الكلام على الطعام وإكثاره بدعة تاريخ الفتوى 27 شعبان 1423هـ المفتي مركز الفتوى بإشراف د. عبدالله الفقيه.

7 الأذكار النووية للإمام النووي (1/297).

8 رواه مسلم برقم (5473).

9 رواه البخاري برقم (3340).

10 إحياء علوم الدين (2/7).

11 مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (2/6).

12 الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (8/250).

13 كشف الخفاء برقم  (3068) (2/363)، وكذا في المقاصد الحسنة للسخاوي برقم (1306) (1/724).

14 الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (8/250).