الحلف بغير الله

الحلف بغير الله

 الْحمد لله على نعمه الكافية، ومننه الوافيةِ، وأَشْهدُ أَن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له شهادةً أدخرها جُنَّةً من النار واقيةً، وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله المبعوث إلى كل أمةٍ قاصيةٍ ودانيةٍ،  صلاةً على ممرِّ الأيام باقيةً.

أما بعد:

فإن لله ​​​​​​​ أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما شاء منها كما قال الله تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ}(البروج:  1-2).

وقال الله سبحانه:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(وَالعصر:  1-3) وقال سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ}(التكوير:  15-16) وقال سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}(الواقعة:75) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن ربنا سبحانه قد أقسم بما شاء من مخلوقاته على ما شاء منها، وأما المخلوق فلا يجوز له أن يحلف ويقسم بغير الله – جل وعلا – أو اسم من أسمائه أو صفة من صفاته، فالحلف: هو اليمين، وهي توكيد الحكم بذكر معظم على وجه مخصوص. وهو تعظيم للمحلوف به، وهذا التعظيم حق لله تعالى فلا يجوز الحلف بغيره، فقد أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بأسمائه و صفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره. فإن الله سبحانه شرع لعباده المؤمنين أن تكون أيمانهم به  أو بصفة من صفاته، وهذا خلاف ما يفعله المشركون في الجاهلية، فقد كانوا يحلفون بغيره من الأشياء كالكعبة والشرف والنبي والملائكة والمشايخ والملوك والعظماء والآباء والسيوف وغير ذلك مما يحلف به كثير من الجهلة بأمور الدين، فهذه الأيمان كلها لا تجوز بإجماع أهل العلم. فعلينا معشر المسلمين أن نحفظ أيماننا ونعرف كيف نحفظها فلا نحلف بالنبي   أو غيره من المخلوقات فإن هذا منكر عظيم ومن المحرمات الشركية فلا يجوز الحلف بالنبي ولا بالكعبة ولا بالأمانة ونحو ذلك بل لا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحلف إلا بالله وحده لا شريك له، قال نبينا وقدوتنا سيد الأولين والآخرين   وصحبه أجمعين: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)1

وصح عنه   أنه قال-:  (من حلف بالأمانة فليس منا)2 وعن أبي هريرة   أن النبي قال:(لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولاتحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون)3 . وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر النمري – رحمه الله – الإجماع على تحريم الحلف بغير الله، وأما ما قاله بعض أهل العلم من أن الحلف بغير الله مكروه فإن مقصوده بذلك كراهة التحريم، تأدباً مع القرآن الكريم، فإن الله ​​​​​​​  لما ذكر النهي عن الشرك والزنا وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}(الإسراء:  38) ويجب أن يحمل كلام من قال بكراهة الحلف بغير الله ​​​​​​​  على كراهة التحريم عملا بالنصوص وإحساناً للظن بأهل العلم. و قد ثبت عن النبي   أنه قال:(من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)4أخرجه الترمذي و الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عمر. وهذا دليل على أن الحالف بغير الله مشرك الشرك الأصغر، وقد يكون الحلف بغير الله شركاً أكبر يحبط الأعمال، ولا يغفره الله ​​​​​​​  وهذا إنما يكون في حالات منها: الحالة الأولى: إذا قام بقلب الحالف أن هذا المخلوق والمحلوف به يستحق كما يستحقه الله سبحانه فهذا قد ساوى الخالق بالمخلوق فهو يعظمه كما يعظم ربه فهذا قد وقع في المصيبة العظمى والمنكر الجسيم والشرك الأكبر، وقد ارتد بهذا عن دينه، وفارق جماعة المسلمين، ولو صلى ولو صام ولو زعم أنه من المسلمين، حتى يتوب إلى ربه ​​​​​​​  وإن أصر على تعظيم المخلوق المحلوف به كتعظيمه لربه ​​​​​​​  حتى مات فهو في النار خالداً مخلداً فيها أبداً، وقد أحبط الله عمله، فلم يقبل منه صرفاً ولا عدلاً ولا صلاة  ولا صياماً ولا حجاً، قال الله  : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ}(الزمر:  65).

الحالة الثانية: إذا قام بقلب الحالف بغير الله أن هذا المخلوق المحلوف به يجوز أن يعبد مع الله أو ساوى به الله في المحبة أو نحو ذلك من المقاصد والنيات الكفرية فهو بهذا يكون أيضاً مشركاً شركاً أكبر، إذا فالحلف بغير الله قد يكون شركاً أصغر وقد يكون شركاً أكبر بحسب مقصد الحالف ونيته، فإن كان في قبل الحالف بالنبي أو بالبدوي أو الشيخ فلان أو أنه يتصرف في الكون مع الله ونحو ذلك فإنه يكون مشركا شركاً أكبر بهذه العقيدة،

أما إذا لم يقصد هذا القصد، وإنما جرى على لسانه من غير هذا القصد لكونه اعتاد ذلك، فهو مشرك الشرك الأصغر، وفرق بين المشركين، فالشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه وهو مخلد في النار وأعماله كلها يحبطها الله. والشرك الأصغر، من أكبر الكبائر وصاحبه على خطر عظيم لكن قد يمحى عن صاحبه برجحان الحسنات، وقد يعاقب عليه بعض العقوبات، لكن لا يخلد صاحبه في النار، وليس هو مما يحبط الأعمال كلها، وإنما يحبط العمل الذي قارنه،

فالشرك الأكبر ينافي ويخالف الإسلام كله. والشرك الأصغر ينافي كمال الإيمان الواجب فلا بد يا عباد الله من ترك الشرك كله دقيقه وجليله صغيره وكبيره. وهذا سبب خوف الصحابة -رضوان الله عليهم- من الحلف بغير الله حتى قال ابن مسعود  : “لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً”. ولهذا قال النبي  :  (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزة فليقل:  لا إله إلا الله)5

وهذا الحديث يدل على أن الحالف بغير الله قد أتى بنوع من أنواع الشرك فكفارته أن يأتي بكلمة التوحيد عن صدق وإخلاص ليكفر بها ما وقع منه من الشرك. كذلك يوجد من يقول في حلفه والنبي والكعبة وحياة أبي وحياة النبي والله وحياتك يا فلان، أو حياتي، وهذا والعياذ بالله مخالفة لأوامر رسوله  . ولا يجوز الحلف بالتحريم كقوله: علي الحرام لأفعل. بالحرام لأفعلن كذا وكذا والحلف بالطلاق مكروه بصيغة علي الطلاق لأفعلن كذا ، أو إن فعلت كذا فأنت طالق. وأما إن قال في حلفه بالطلاق بالطلاق لأفعلن كذا أو لا، فذلك منكر لا يجوز لأنه من الحلف بغير الله ​​​​​​​ . وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله   يقول:(من حلف بغير فقد كفر أو أشرك)67

قال سليمان آلالشيخ: “قوله: (فقد كفر أو أشرك) أخذ به طائفة من العلماء فقالوا: يكفر من حلف بغير الله كفرَ شرك، قالوا: ولهذا أمره النبي   بتجديد إسلامه بقول: لا إله إلا الله، فلولا أنه كفرٌ ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك”.

وقال الجمهور: لا يكفر كفراً ينقل عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر، كما نصّ على ذلك ابن عباس وغيره،وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول: لا إله إلا الله، فلأنّ هذا كفارة له مع استغفاره، كما قال في الحديث الصحيح: (ومن حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله)8 وفي رواية: (فليستغفر)9 فهذا كفارة له في كونه تعاطى صورةَ تعظيم الصنم، حيث حلف به، لا أنه لتجديد إسلامه،ولو قُدّر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره، لكن الذي يفعله عبّاد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الإيمان صادقاً أو كاذباً، فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدِم على اليمين به إن كان كاذباً، فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجلّ وأعظم من الله،وهذا ما بلغ إليه شرك عبّاد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله، كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ للَّهُ مَن يَمُوتُ}النحل: 3810

اللهم اهدنا صراطك المستقيم، وثبتنا عليه حتى اليقين، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك لما لا نعلم، اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله على منة الإسلام، والشكر له على نعمة السمع والبصر والكلام، وأستغفر الله من جميع الآثام،والصلاة والتسليم على محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه الكرام.

إذاً أيها المسلمون:

فالحلف بغير الله أو بغير صفة من صفاته محرم وهو نوع من الشرك، وعلى هذا فيحرم على المسلم أن يحلف بغير الله   لا بالكعبة ولا بالنبي   ولا بجبريل ولا بميكائيل ولا بولي من أولياء الله، ولا بخليفة من خلفاء المسلمين، ولا بالشرف ولا بالقومية ولا بالوطنية كل حلف بغير الله محرم وهو نوع من الشرك والكفر – والعياذ بالله -. وأما الحلف بالقرآن الذي هو كلام الله فإنه لا بأس به، لأن القرآن كلام الله   تكلم الله به حقيقة في لفظه مريداً لمعناه وهو سبحانه وتعالى موصوف بالكلام فعليه يكون الحلف بالقرآن حلفاً بصفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهو جائز.

فلا تحلف بغير الله أيا كان المحلوف به حتى ولو كان النبي   أو جبريل أو من دونهم من الرسل أو الملائكة أو البشر أو من دون البشر فلا تحلف بشيء سوى الله ​​​​​​​ .

والخلاصة: عباد الله: أن الحلف تعظيم للمحلوف به، ولذلك فهو لا يليق إلا بالله تعالى، غير أن هذا لا يعني أن الشارع يرغب في الإكثار من الحلف بالله بسبب وبغير سبب، بل أمرنا بتوقير الحلف بالله تعالى، وعدم الإكثار منه قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ}(10)سورة القلم، وقال تعالى:{وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ}، وقال تعالى:{وَاحْفَظُوا  أَيْمَانَكُمْ}(89) سورة المائدة، أي لا تحلفوا إلا عند الحاجة وفي حالة الصدق والبر، لأن كثرة الحلف والكذب فيها يدلان على الاستخفاف بالله تعالى وعدم التعظيم له، وهذا ينافي كمال التوحيد، وفي الحديث أن رسول الله قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه)11 ففيه شدة الوعيد على كثرة الحلف مما يدل على تحريمه حفاظاً على حرمة اسم الله تعالى وتعظيماً له سبحانه، وكذلك يحرم الحلف بالله تعالى كاذباً، وقد وصف الله تعالى المنافقين بأنهم يحلفون على الكذب وهم يعلمون.

فتلخص ما يلي:

تحريم الحلف بغير الله تعالى كالحلف بالأمانة أو الكعبة أو النبي أو الولي وأن ذلك شرك.

وتحريم الحلف بالله تعالى كاذباً.

وتحريم كثرة الحلف بالله تعالى، ولو كان صادقاً إذا لم تدع إليه حاجة لأن هذا استخفاف بالله سبحانه،وجواز الحلف بالله تعالى إذا كان صادقاً وعند الحاجة.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا إلى ربكم واستغفروه، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة،والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} الأحزاب: 56.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل.

 


1 – صحيح البخاري – (ج 9 / ص 174 – 2482) وصحيح مسلم – (ج 8 / ص 436 – 3105)

2 – سنن أبي داود – (ج 9 / ص 69 – 2831)  تحقيق الألباني: صحيح ، الصحيحة ( 94 )

3 – سنن أبي داود – (ج 9 / ص 64 – 2827) وسنن النسائي – (ج 12 / ص 69 – 3709) وتحقيق الألباني

( صحيح ) انظر حديث رقم: 7249 في صحيح الجامع.

4 – سنن الترمذي – (ج 6 / ص 13 – 1455) تحقيق الألباني: صحيح ، الإرواء ( 2561 ) ، الصحيحة (2042 )

 

5 – صحيح البخاري – (ج 15 / ص 107 – 4482) وصحيح مسلم – (ج 8 / ص 439 – 3107)

6 – سنن الترمذي – (ج 6 / ص 13 – 1455) تحقيق الألباني: صحيح ، الإرواء ( 2561 ) ، الصحيحة (2042 )

8 – صحيح البخاري – (ج 15 / ص 107 – 4482) وصحيح مسلم – (ج 8 / ص 439 – 3107)

9 – لم أجد هذه الرواية

11 – المعجم الكبير للطبراني – (ج 6 / ص 57) وفي صحيح الترغيب والترهيب – (ج 2 / ص 163)  1788 – قال الألباني: (صحيح).