خذ بيده

خذ بيده

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

أخي إمام المسجد: هل تعرف تلك الأشجار اليانعة الثمار، والزرع النابت على الأرض يكسوها خضرة ونضارة؟

هل دعاك جمالها، أو استوقفتك روعتها لتتأمل أصلها كيف كان؟

ألم يكن بذرة أو فسيلة أو حبة تلقى في التراب؟

ها هي كما تراها باسقة مثمرة يقصد ظلها الراغبون.

انظر إلى مسجدك كم فيه من حبوب وفسائل تنتظر أن تأخذها وتغرسها في تراب العلوم والمعارف، بأرجاء بستان مسجدك العامر، وتسقيها بالتشجيع والتحفيز، وتهذبها عن عضاة وشوك الأخلاق.

فإذا كنت أنت الذي يظلل المسجد بدروسه وإقامة الصلوات الخمس؛ ولم تغرس فيه شجيرات من بعدك، ولا بذرت بذرات تخلفك؛ فستظل وحدك القائم على المسجد، وربما على الدعوة فيه، ومقام التعليم، ويبقى الأمر مقتصراً عليك، وهذا جزاء من لم يساهم يوماً في إيجاد الصف الثاني، أو تأهيل الخليفة بعده لينوبه في الصلاة، والتعليم، والدعوة، والتربية، وسائر أمور المسجد.

وكم نرى من السلف الأعلام من عالم إمام كان بذرة لشيخ رأى فيه صلاحية الزرع، فألقاه في تربة علمٍ خصبة، فصار دوحة عظيمة امتدت جذورها إلى أيامنا هذه.

ها هو أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة – رحمهما الله – أخذ بيده الإمام العظيم أبو حنيفة حين رأى نبوغه وإقباله على مجالس العلم، ولنا أن نسمع ما قاله عن نفسه: “توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصَّار – الخياط -، وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري، وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي، وطال عليها هربي؛ قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فسادٌ غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مُرِّي يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرفتْ عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرفْتَ، وذهب عقلك، ثم لزمتُه فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم ضحكُك؟! فقلت: خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: لتخبرني، وألحَّ عليَّ، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك، وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا وديناً، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه”.

وها هو الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول: “خرجت عن مكة فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب والأخبار، وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله عزَّ علي ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك، وأرشده إلى الإمام مالك بن أنس، فرحل إليه، وكلمه، قال: فلما أن سمع كلامي نظر إليَّ ساعة وكانت لمالك فراسةٌ فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، فقال لي: يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن”1، فبذره رجل من بني الزبير، وسقاه إمام دار الهجرة .. رحم الله الجميع.

وها هي كلمات الإمام القيم ابن القيم تنبي عن نجاته وتوبته على يد شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كانت له نباهة وفطنة وحرص على العلم لكن على غير طريق السنة، فأخذ بيده الإمام العالم ابن تيمية – رحمه الله – فكان بعد ذلك من أبرز علماء السنة

يا قوم والله العظيـم نصيـحة من مشفق وأخ لكم معـوان
جربت هذا كله ووقعـت في تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتـاح لي الإله بفضـله من ليـس تجزيه يدي ولساني
حبر أتى من أرض حـران فيا أهلا بمن قد جـاء من حران
فالله يجزيه الـذي هـو أهله من جنة المأوى مع الرضـوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرُم حتى أراني مطلـع الإيمــان2

و”لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء”3 قالها أبو الحسن الدارقطني رحم الله الجميع.

فيا إمام المسجد خذ بيده إن جاءك طالباً علمك، أو التحق بالتحفيظ في مسجدك، أو رأيته في حيِّك له نباهة، وفطنة، وذكاء، واصرفها في طاعة الله، وخدِّمها لكتاب الله، وروِّض عقله على العلوم الشرعية، ومرِّنه على فهم الشريعة والتبليغ عن الله باستغلال طاقاته، واكتشاف مواهبه، فلا زالت العقول تتفاوت، والذكاء ينمو ويخبو، والهمة مولودة مع الآدمي؛ فأيقظها أنت إن نامت، ونبهها إن غفلت، وأشعل في نفوس أشبال مسجدك همم الرجال، ولتكن لك فراسة مالك، وعين عقل النعمان، وكن كصاحب حران، لا ترم حتى تريهم مطلع الإيمان.


1 معجم الأدباء (2/340).

2 متن القصيدة النونية (2/140) لابن القيم – مكتبة ابن تيمية – القاهرة – الطبعة الثانية 1417هـ.

3 تاريخ بغداد (13/102) للخطيب البغدادي – دار الكتب العلمية – بيروت، وتاريخ مدينة دمشق: (58/90)، لابن عساكر تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري ط دار الفكر- بيروت- سنة 1995م.