إنما أشكو بثي وحزني إلى الله

إنما أشكو بثي وحزني إلى الله

الشيخ محمد صالح المنجد

الجمعة21/2/1431هـ

عناصر الموضوع:

1.    لمن تكون الشكوى

2.    نماذج من شكوى الأنبياء

3.    الصحابة وشكواهم إلى الله

4.    فقه الشكوى

 

لمن تكون الشكوى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي ينفس الكرب، ويفرج الهم، ويذهب الغم، ويقضي الدين، ويغني من الفقر، إليه تبث الشكوى والأحزان، فهو ملجأ الملتجئين وأمان الخائفين، يحب التوابين، ويحب المتطهرين، وقد جرت حكمته تعالى في عباده أنه خلقهم في كبد، في مشقة وابتلاء، فرماح المصائب على العباد مشرعة، وسهام البلاء إليهم مرسلة، ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب يبكي حتى يذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى مطارد لا مأوى له، ومحمد عليه الصلاة والسلام يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة، وهكذا الأنبياء والأولياء، ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ للمؤمن منها، فلا يخلو الإنسان في هذه الدنيا من الشدائد وضيق الأمور والمصائب والبلايا والمحن، فهذا مبتلى بفقد قريب أو بموت حبيب وهذا بذهاب المال، وآخر بمرض خطير، وهذه مطلقة، وأخرى معلقة، وهذه لم تتزوج، وتلك عقيم لا تنجب، وهذا يتيم، وآخر فقير وهذا وهذا من أنواع البلاء في المال والنفس والمسكن والوظيفة والزوجة والولد، فإلى من يرجع أصحاب المصائب وإلى من يلجأ أرباب النوائب، والإنسان أمام هذه البلايا يحتاج إلى الشكوى، والمكروب يستريح بالبث، والشكوى تخفف الهم، وتزيل الألم، وقد وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأنه أواه حليم، أي: كثير الدعاء والشكوى إلى الله تعالى، هذا معنى الأواه، والله عز وجل يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه وإلحاحه ودعاءه، وقد ذم الله الذي لا يتضرع ولا يستكين وقت البلاء، فقال سبحانه {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}(سورة المؤمنون:76)، والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه ولا يشكو حاله إليه، والرب عز وجل لا يريد من العبد أن يتجلد أمامه، وأن يكتم ما في نفسه عنده، بل يريد من عبده أن يستكين له، وأن يتضرع إليه، إن العبد يتجلد أمام العبد، ويكتم شكواه عند الناس، هذا حال المؤمن لكنه لا يكتم شكواه إلى الله، فإن الله يحب من يشكو إليه، ويظهر المسكنة والحاجة والشدة عنده، قيل لبعضهم: كيف تشتكي إليه ما لا يخفى عليه؟ فقال: ربي يرضى ذل العبد إليه.

شكوت وما الشكوى لنفسي عادة    ولكن تفيض الناس عند امتلائها

فيجد الإنسان أحياناً من حاله ما يضطره ويلجئه إلى بث ما في نفسه، فإلى من يبث، طبيب نفسي مخلوق آخر مثله، إن البهائم أحياناً ليشتد بها الأمر حتى تشكو، وقد ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ -رجع صوته وبكى وذرفت عيني الجمل- فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه -مؤخر رأسه- فسكت وسكن، فقال: لمن هذا الجمل؟، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه -تحمله من الأعمال ما لا يطيق، وتوالي عليه المشقات-)) رواه أبو داود وهو حديث صحيح،.

نماذج من شكوى الأنبياء

الشكوى لمن؟ إلى من يشكو الإنسان أمره؟، كان الأنبياء والرسل وهم خير الخلق إذا نزل بهم البلاء واشتد بهم الكرب، وعظمت المصيبة عندهم، لجأوا إلى الله وتضرعوا إليه وأظهروا افتقارهم إليه بالشكوى، فهذا نوح عليه السلام لما أشتد عليه أذى قومه حاصروه وهددوه، وكانوا يأخذون من يتبعه فيفتنوهم عن دينهم، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ}(سورة القمر:10-11)، وهكذا قال يجأر إلى الله {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا}(سورة الجن: 21)، قال: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}(سورة الجن: 24)، بهذه الأصنام التي عبدوها {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} (سورة الجن: 26-27)، فجاء الله عز وجل بالنصر المبين، وأغرق القوم بالطوفان، وأنقذ الله نوحاً ومن معه، وابتلى الله أيوب بالأمراض، فلبث في بلائه ثلاث عشر سنة، حتى رفضه القريب والبعيد، جاء في الحديث الصحيح حتى قال بعض الناس ممن يعرفون أيوب لقد أذنب أيوب ذنباً عظيماً وإلا لكشف عنه هذا البلاء، لأن أيوب العابد الرّجاع إلى الله، الصابر كان صاحب عبادة ولم يكن صاحب ذنوب، وما نزل به ابتلاء وليس لذنوب أحدثها، فلما فهم بعض الناس من طول البلاء واشتداد المرض الذي نزل به أنه لذنوب أحدثها حزن، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(سورة الأنبياء:83)، وهكذا يشكو إلى الله ويرفع صوته بمناجاة مولاه، نادى ربه يشكو الحال، {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فإظهار البلوى والشكوى عند الله لا ينافي الصبر بل هو من العبودية، مسني الضر بأنواعه في جسدي، في مالي، في ولدي، آذتني ألسن الناس، ارحمني فأنت أرحم الراحمين، وهكذا جاء اللطيف سبحانه وتعالى بالفرج وعبده لم يزد أن يقول: مسني الضر، ووصف خالقه بأنه أرحم الراحمين، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (سورة الأنبياء:84).

ويونس عليه السلام لم يكن عنده أصلاً من يشكو إليه إلا الله، لأنه محبوس في بطن الحوت، في هذه الغواصة التي تجوب قيعان البحار، لكن في حال من الأذى والضعف في بطن الحوت، ماذا يوجد فيه؟ حياة رغيدة!، كلا، في ظلمات البحر والليل وبطن الحوت، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(سورة الأنبياء:87)، وهكذا تتلمس في شكوى ذلك النبي معاني الضعف والمسكنة والافتقار إلى الله، ولذلك جاءت النتيجة {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}(سورة الأنبياء: 88)، الأنبياء يبثون الشكوى إلى الله، زكريا عليه السلام، استمر به الحال أن لا يولد له وللناس أولاد وهو عقيم، ثم هو نبيهم وقدوتهم، وآية الله فيهم وبينهم، ولا يولد له، والعمر يتقدم، والسن يكبر، والضعف يشتد، والعظام تضعف، وهو يرى بني إسرائيل وحاجتهم إلى الأنبياء والقدوات، هو سيموت لكن من الذي سيقوم بالرسالة من بعده؟، {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}(سورة مريم: 4)، (اشتعل) انتشار الشيب في الرأس، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا * وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}(سورة مريم: 4-6)، فماذا سيرث؟ النبوة والرسالة، العلم والفقه والعبادة، الدين والبلاغ.

 رفع الشكوى إلى الله وكرر، {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}(سورة الأنبياء: 89)، رب لا تذرني فرداً وحيداً عقيماً لا ذرية لي ينقطع أثري من بعدي في ولدي، {لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، وربه يسمع ويرى وهو الرحيم سبحانه وتعالى، يبتلي عباده ليلجؤوا إليه فيكشف ما بهم، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(سورة الأنبياء:90)، هؤلاء أهل البيت المباركين أصحاب الطاعة وأصحاب العبادة، وأصحاب القربى والزلفى عند الله.

لم يمل من الدعاء، وكان القلب متصلاً بالله، قال بعض العلماء: "كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله إذا سألت ربك ولم يعطك فاقعد وابك عليه"، يعقوب عليه السلام يفقد أصلح أولاده، وأمثل أولاده، والذي كان يُعده من بعده، ويخصه لما يجد من شدة الإقبال منه والاعتناء والرغبة، يوسف ثم من بعده أخاه الأصغر أيضاً يفقده، اشتد الحزن، عظم البلاء، طالت المدة، ولكنه لم ييأس ولا يزال يدعو ويدعو فيلومه بعض أهله على إضراره بنفسه فيقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ}(سورة يوسف:86)، لا أشتكي إليكم وليس عندكم، {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ}، ذهب الولد الأول ثم ذهب الولد الثاني، واختفيا، واشتد الأمر وعظم ومن الذي تمالأ عليه؟ أقرب الناس إليه أولاده الآخرون، أليس هذا موجعاً؟ ثم يذهب البصر ويفقد الحبيبتين، {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(سورة يوسف:86)، أشكو همي وما أنا فيه من الحزن الذي ملأ قلبي إلى الله الذي أرجو منه كل خير، قال العلماء وأهل اللغة والبث: أشد الحزن وأعظمه وأصعبه؛ لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه ويفشيه، ولكنه بثه عند ربه، وما زال يدعو ويدعو بعد ذهاب البصر حتى رد الله عليه يوسف وأخاه والمُلك والإكرام {ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ*وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}(سورة يوسف:99-100)، كان عمر رضي الله عنه يقرأ هذه الآية إنما أشكو بثي وحزني إلى الله في الفجر فيبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف.

لما ابتلي يوسف عليه السلام بكيد النساء، كادت له النسوة، امرأة العزيز أولاً: تريد أن تغويه وتتزين له وتتعرض له، ثم تدعوه صراحة وتقول هيت لك وتغلق الأبواب، ثم تطارده وتجري وراءه، ثم تفتري عليه، وتقول لسيدها: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(سورة يوسف:25)، ثم تجمع النسوة، تم تعد ذلك المجلس، ثم تأمر يوسف بالخروج، ثم يجتمع عليه كيد النسوة، ثم يهدد بالسجن، فإلى من يشكو؟ وإلى من يذهب يوسف عليه السلام؟ فسيده يسمع كلام زوجته، وهو عبد رقيق أُخذ ظلماً، ليس له إلا الشكوى إلى الله، {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}(سورة يوسف:33)، فماذا كانت النتيجة؟ {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(سورة يوسف:34)، وهكذا خرج معززاً من السجن مكرماً بعد ذلك ليكون له أمر الخزانة، ثم أمر المُلك، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}(سورة يوسف:101)، وهكذا لما كان يدعو ربه في المواقف المختلفة في الجب والقصر والسجن خلّصه الله تعالى، فأخرجه من الجب وعصمه من الفاحشة، ثم أخرجه من السجن، ولم تنفع يوسف محاولة الشكوى إلى مخلوق وهو الذي قال لساقي الملك لما علم أنه سينجو ويخرج، {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}(سورة يوسف:42)، أي: عند الملك، لكن لم تفد تلك المحاولة، وإنما الذي أفاده أنه دعا ربه، بعدما لبث في السجن بضع سنين، كان الإفراج من الله بماذا؟ بشيء لا يمكن التخطيط له ولا يمكن أصلاً أن يحقق من البشر، وهي رؤيا يراها الملك، فمن الذي يقدر على أن يري الملك رؤيا يحتاج فيها إلى تأويل؟ ويصر فيها على التعبير ويلجأ إلى الجلساء ويعجزون جميعاً لكي يتذكر الساقي ذلك المتروك في السجن الذي يعرف تأويل الرؤيا والمجرب من قبل، فإذاً الخلاص كان من الله الذي أرى الملك تلك الرؤيا.

خرج موسى من بلده هارباً، حافياً، طريداً، خائفاً، ليصل جائعاً، متعباً، منهكاً، ويقوم بالمعروف ويأوي إلى ظل شجرة وهو بهذه الحال، فهل طلب من أحدهم شيئاً؟ لا. من الرعاة؟ لا. من المرأتين؟ لا. مقابل على العمل وهو محتاج؟ لا. قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(سورة القصص:24)، فشكى إلى الله ونادى ربه، وأظهر حاجته، وبيَّن فاقته، {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، محتاج إلى خيرك يا رب، وليس في الشكوى إلى الله المولى العلي الغني نقصٌ أبداً، فإن الفقير يشكو إلى الغني ومن أسمائه تعالى الغنيّ، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يذكر إلا فقره وحاجته، ولم ينص على طلب شيءٍ إلا شكوى الحال، والسؤال بالحال أدب عظيم مع الله، والله أدرى بحاجة عبده ومراده.

لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا        وبت أشكـو إلى مولاي ما أجـد

وقلت يا أملي في كل نـائـــبة        ومن عليه لكشف الضـر أعتمـد

أشكـو إليـك أموراً أنت تعـلمها       ما لي على حملها صـبر ولا جلـد

وقــد مددت يدي بالذل مبـتهلاً       إليك يا خير من مدت إليـه يــد

فــلا تردنـّها يــا رب خـائبة      فبحـر جودك يـرد كـل من يـرد

مؤمن آل فرعون الذي اجتمع عليه قومه وهو يدافع عن ذلك النبي الكريم، ويواجه القوم ويقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ}(سورة غافر: 41-43)، لا يضرون ولا ينفعون، ولا يستجيبون ولا يسمعون،{وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}(سورة غافر: 43)، ثم رفع أمره إلى ربه وتوكل عليه وفوض إليه، فقال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (سورة غافر:44)، فإليه التجأ، وبه اعتصم، وعليه توكل، وإليه ألقى أموره، لا فارج للهم ولا كاشف للبلوى إلا الله، وهذا الذي يشعر العبد بأنه يأوي إلى ركن شديد إذا حسنت إلى الله شكواه.

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كما يذكر أصحاب السير، لما رفضه أهل مكة، القريب والبعيد وتآمروا عليه، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ}(سورة الأنفال:30)، أي: يحجزوك، إقامة جبرية في بيتك، { لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}(سورة الأنفال:30)، فذهب إلى أهل الطائف، فماذا وجد عندهم أيضاً؟ كل رد سيء وسبوه وشتموه وآذوه وطردوه وأخرجوه فلم يكونوا أحسن حالاً من أهل مكة، ذهب عليه الصلاة والسلام يخفق برأسه من الهم ويسير على غير هدىً في الطريق، حتى وصل إلى قرن الثعالب (موضع بعيد خارج مكة)، من الهم والغم الذي ركبه، فما نصره من يتمكن من نصرته لتبيلغ الدين ولا آووه، جاء في رواية الطبراني قوله عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)) حسنه ابن كثير في تفسيره، وقال الهيثمي في بقية رجاله ثقات، وابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وقال ابن القيم: "هذا الحديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة".

وماذا فعل عليه الصلاة والسلام في بدر؟ لما اجتمعت قريش بفخرها وخيلائها وأعدادها وعدتها تحاد الله ورسوله، ونظر إلى أصحابه وهم قلة في العدد والعدة، ثيابهم بالية، فاقتهم وفقرهم شديد مستضعفون فقال: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض))، إذا قُتل وهلك هؤلاء المسلمون من الذي يعبدك في الأرض بعد ذلك؟ فهؤلاء رأس المال، وأساس الدين، ومنطلق الإسلام، فشكى إلى الله، ولم يَشْكِ له مسألة دنيوية كقلة مال، بل شكى إليه في أمر الدين واجتماع الأعداء وتكالب الخصوم وقلة الناصر وضعف المعين، وهذه الشكوى العظيمة إلى الله في أمر الدين، أن يرفع الدعاة أكفهم إلى الله، يجأرون ويسألون في أمر الدين، وهم يرون اشتداد الكفار وتعاونهم وتمالؤهم وتداعيهم على أهل الإسلام ((تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، ويرون تكالب المنافقين واشتداد إيذاء المنافقين للدين وأهل الدين، ومن الذي ينصر ويعين؟ ومن الذي يؤازر؟، عندما يرى الإنسان صاحب الدين أن الأمر فيه استغلاق لا بد من الشكوى إلى الله، ولا بد من رفع اليدين والجؤار إلى الله القوي العزيز سبحانه وتعالى، والله يأتي بالفرج فلا يخيب السائل، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله القوي العزيز، الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، الحمد لله السميع لكل شكوى، الحمد لله العليم بكل بلوى، الحمد لله الذي يقدر على النفع ويدفع الضر سبحانه وتعالى، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم مالك الملك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، البشير والنذير و السراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.

الصحابة وشكواهم إلى الله

أصحابه يا عباد الله بعد موقعة أحد فيهم القتيل وفيهم الجريح وفيهم الضعيف، آلام بدنية ونفسيه نتيجة ما حدث من المجزرة في أولياء الله، وأقرباء رسول الله عليه الصلاة والسلام في هؤلاء الأصحاب، ثم يأتي الخبر بأن أبا سفيان ومن معه سيعودون للاستئصال لأنه لم يكفيهم ما حصل فماذا قال الصحابة؟ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وهم من أرسلت عبرهم الرسالة والتهديد ونقلوا خبر عودة المشركين، {إِنَّ النَّاسَ} كفار قريش، {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} ليعودوا، ويعاودوا الكرة، وتكون الضربة القاضية، {فَاخْشَوْهُمْ} فماذا حصل؟ ماذا أثرت تلك الكلمات وتلك الرسالة المنقولة؟ {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ} يكفينا من كل شر، ويدفع عنا كل ضر {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(سورة آل عمران:173)، الذي نتوكل عليه ونفوض أمورنا إليه، {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(سورة آل عمران:174)، هذه فائدة الشكوى إلى الله، هذه عاقبة اللجوء إلى الله، فالله سبحانه وتعالى إذا فوض عبده الأمر إليه عصمه وقواه وصرف عنه السوء وآواه وسكَّن قلبه ونفسه وطمأنه، والإنسان وحده لا يستطيع أن يصارع الأحداث، ولا أن يقاوم الملمات، ولا أن ينازل الخطوب ففيه ضعف وفيه عجز، فلا بد له من ركن شديد، لا بد أن يلجأ إلى ربه وأن يثق بمولاه، وأن يفوض الأمر إليه سواء ذكراً كان أم أنثى، وتلك قصة المشتكية إلى ربها،{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}(سورة المجادلة:1)، ظاهر أوس بن الصامت من زوجته خولة بنت ثعلبة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تحاوره وتراجعه وتشكو زوجها، وتقول يا رسول الله: أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، الآن أنا ألقى في الشارع بعد كل هذا المجهود وهذه الحياة، وأعلَّق مظاهرة، لا زوجة ولا مطلقة، بل معلقة، فقالت: "اللهم إني أشكو إليك"، هذا هو الشاهد، هكذا تقول أمام النبي عليه الصلاة والسلام، "اللهم إني أشكو إليك"، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده جواب، فأمرها بالصبر وأنه ابن عمك، ومحاولاً إبقاء الشمل ملموماً حتى يأتي الله بأمره ويبين الرب حكمه، "اللهم إني أشكو إليك"، حتى النبي عليه الصلاة والسلام ما شكت إليه وإنما شكت إلى ربها من كمال إيمانها، وقوة توحيدها، فماذا كانت النتيجة؟ آيات تنزل وتقرأ إلى قيام الساعة ولا تخص تلك المرأة وحدها بل كانت فاتحة لحل القضية المعضلة عند كل امرأة تقع في وضع مشابه، وتنزل الآيات {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(سورة المجادلة:1)، ثم تأتي الآيات بالأحكام، فسبحان الذي وسع سمعه الأصوات وكل الشكايات على اختلاف اللغات وتنوع الحاجات، إذا قحطت الأرض واشتد الحال على الناس لا مطر ولا نبات ولا كلأ عند ذلك يضج الكبير والصغير والبهمية، لما صار عام الرمادة (المجاعة) قام العباس بن عبد المطلب يستغيث بالله ويستسقي للناس، قدموه؛ لأنه صاحب الشيبة وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحب آله إلى الله يتقربون، وصلحاء آل البيت دعوتهم عظيمة فلجأوا إلى الحي منهم، ولا يجوز سؤال الأموات، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز سؤاله في قبره، وطلبوا من العباس أن يستسقي لهم فقام يقول: "اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعة، فقد صرخ الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من رحمتك إلا القوم الكافرون".

فنشأت سحابة والناس يقول بعضهم لبعضهم في المصلى في الاستسقاء: ترون ترون، ثم التأمت ومشت فيها ريح ثم هدأت ودرت، فو الله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار، كل واحد يلوذ بالجدار من كثرة الأمطار، وقلصوا المآزر، فطفق الناس يقولون للعباس: هنيئاً لك ساقي الحرمين.

لما وضع خبيب بن عدي على الخشبة محاصرٌ بالأعداء ويرمى بالسهام، ليس هنا شكوى إلا إلى الله الذي اصطفاه شهيداً وأراحه من هؤلاء المشركين إلى ما عنده في عليين.

"إلى الله أشكو غربتي بعد كـربتي    وما أرصد الأحزاب بي عند مصرعـي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي     فقد بضعوا لحمي وقد يئس مطمـعي

وذلـك في ذات الإله وإن يشـأ    يبـارك علـى أوصـال شلوٍ ممـزع

ولست أبالي حين أقـتل مسلـماً    على أي حـال كـان لله مضـجعي" رواه الطبراني في المعجم الكبير.

وهكذا ذهب الرجل ضارباً المثل العظيم رضي الله عنه في الثبات على الدين إلى الممات، وعدم التنازل قيد أنملة، فعلمنا ذلك الدرس الذي لا يزال في أجيال المسلمين إلى قيام الساعة.

فقه الشكوى

بعث أحد الكبراء إلى أحد العلماء يريد أن يقتله، وقال مهدداً في المجلس: قتلني الله إن لم أقتله، فلما دخل العالم المجلس قال بينه وبين ربه: "اللهم أحرسني بعينيك التي لا تنام، واكنفني بكنفك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك عليّ، ولا أهلكُ وأنت رجائي، كم من نعمة أنعمت بها علي قلّ لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري، فيا من قلّ عند نعمته شكري فلم يحرمني، وقلّ عند بليته صبرني فلم يخذلني، ورآني على الخطأ فلم يفضحني يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبداً، اللهم بك أدرأ في نحره، واستعيذك من شره، اللهم احفظني مما غيبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرت، يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة أسألك فرجاً وصبراً جميلاً ورزقاً واسعاً والعافية من جميع البلاء وشكر العافية"، فلما وصل إليه إذا به يطرق إطراقاً طويلاً، ثم مدّ يده فصافحه وأجلسه على مفرشه، ثم قال لعلنا: أخفناك، اذهب في حفظ الله وكلاءته ثم ألحق بها جائزة وكسوة"، يصرّف البلاء سبحانه، ينجي من الورطات، ومن الشدة والخوف والكرب، وموج البحر العاتي والمهالك والظلمات، والعدو القاهر كما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء، "كان رجل يكنى أبا مغلق، وكان تاجراً يتجر بماله له ولغيره يضرب به الآفاق، فخرج عليه مرة لص مقنع بالسلاح، وقال: ضع ما معك فإني قاتلك، قال: ما تريد من دمي فشأنك والمال، قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك، قال: أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات، فقال: صلّ ما بدا لك فتوضأ، فكان من دعاءه "يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، فأهلك الله ذلك اللص".

كان الربيع بن خثيم يقول في دعاءه: "اللهم أشكو إليك حاجة لا يحسن بثها إلا إليك، واستغفر منها وأتوب إليك"

 أُصعِّد أنفاسي وأحدر عبرتي    بحيث يرى ذاك الإله ويسمع

إلى الله أشكو لا إلى الناس إنما   مكان الشكايا لا يضر وينفع

ولا بد للإنسان المسلم من فقه في الشكوى إلى الله، فإذا ألمت بك ملمة، أو داهمك خطب فارفع الكفين، فرفع الكفين فيه إظهار الافتقار والحاجة والطلب، وأظهر الانكسار والضعف والمسكنة، واعترف بالذنب واعترف بالنعمة وسل حاجتك.

إذا أرهـقت همـوم الحـياة    ومسك منها عظيم الضرر

وذقـت الأمرين حتى بكيت    وضج فؤادك حتى انـفجر

وسدت بوجهك كل الدروب   وأوشكت تسقط بين الحفر

فيـمم إلـى الله فـي لهـفة   وبث الشكاة لـرب البشر

تبرأ من حولك، وتبرأ من قوتك، وقل كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا أعلى من كل ما يقال من عبارات الناس، ((اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)) رواه أبو داود وهو حديث صحيح، وتيقن بأن الله أرحم بك من نفسك، وأرحم بك من أمك التي أنجبتك، وأن الشكوى إلى الناس لا تزيد المصاب إلا شدة وجزعاً، كالعطشان الذي يشرب ماء البحر فأنى يروى، قال عمر رضي الله عنه: "ما في الشكوى، أي -إلى من حولك- إلا أن تحزن صديقك وتشمت عدوك".

وقال الأحنف: "شكوت إلى عمي في بطني فنهرني، ثم قال: يا ابن أخي لا تشكوا إلى أحد ما نزل بك، فإنما الناس رجلان صديق تسوؤه -بهذه الشكوى وتؤلمه- وعدو تسره، يا ابن أخي: إحدى عيني هاتين ما أبصرت بهما سهلاً ولا جبلاً منذ أربعين سنة، وما اطلعت على ذلك امرأتي ولا أحد من أهلي".

قد يفقد المـرء بين الناس عـزته    إذا شكى أمره أو سب محنته

فكن كليث الشرى ما باع هيبته    ولا تشكَّ إلى خلق فتـشمته

ولذلك الشكوى إلى الله، قال ابن القيم: "الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكى، ولو عرف الناس لما شكى إليهم، رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته، فقال يا هذا: والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك"، وقال شيخ الإسلام: "وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه، خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك".

إن الوقوف على الأبواب حرمـان     والعجز أن يرجو الإنسان إنسان

متى تؤمـل مخـلوقاً وتقصــده      إن كــان عندك بالرحمن إيمان

 ثق بالذي هو يعـطي ويـمنع ذا      فـي كل يـوم له في خلقه شان

الشكوى إلى الله ليست ضعفاً، بل الضعف إلى الله هو القوة، لأن الشكوى إلى الله تحقق العبودية وتظهر الإنسان كما يريده ربه، فالله يبتلي عبده، ليسمع تضرعه إليه، لأن الله يحب الشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه، وأن يتذلل إليه شاكياً فقره وحاجته وضعفه وعجزه وقلة صبره.

فأظهر التضرع والتمسكن عنده؛ فرحمته أقرب من اليد إلى الفم، كم تبدلت أحوال المشتكين وانقلبت أمور الملتجئين فشُفي السقيم وولد للعقيم ورزق الفقير وتزوج الأعزب، ومن أكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم      يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا      وأنت يا حـي يا قيـوم لم تـنم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سفه       فمن يـجود على العاصين بالكرم

وقد قال الله {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ}(سورة العنكبوت:17)،أي: لا عند  غيره، فيا أيها المظلوم، يا من انقطعت بك الأسباب وأغلقت في وجهك الأبواب ولم تجد من يرفع عنك مظلمتك، أرفع أكف الضراعة إلى الجبار العظيم؛ يجبر كسرك ويكسر خصمك، وبث إليه الشكوى.

اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم إنا نرفع إليك كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى مما أصاب هذه الأمة فارفع عنها البلاء يا رب العالمين، وأعزها بدينك واكسر عدوها، واجمع شملها، ووحد كلمتها، اللهم ارزق أهل هذه الأمة التوحيد، ووحد على الحق صفوفهم، اللهم إنا نسألك أن تجبر كسرنا وترحم ضعفنا وتغني فقرنا، اللهم اشف مريضنا، واهدِ ضالنا وارحم ميتنا، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تجعلنا عندك بالمقام العظيم يا رب العالمين، جُد علينا بخير وعافيتك، اللهم نسألك فضلك، اللهم ارحمنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وعافنا واعف عنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.