إنشاء مجلس استشاري في الحي

إنشاء مجلس استشاري في الحي

من أعظم أسباب النجاح الاستشارة، فهي إجماع العقول، وسداد الرأي، وقوة الثمرة، وثبات الخطوة.

وقد اهتم الإسلام بالشورى وجعلها من مقومات الحياة، بل أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من السماء، فأمره تعالى بمشاورة من هو دونه من أصحابه قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران:159)، "ذهب المفسرون إلى أن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجةٍ منه إلى رأيهم، ولكن ليعلم ما في المشاورة من البركة، وقيل: أمره بذلك تألفاً لهم، وتطييباً لنفوسهم، وقيل: ليستنّ بذلك المسلمون"1.

وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عدة مواطن قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد مبيناً ذلك: "واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُدٍ أصحابه أيخرج إليهم (أي الكفار)، أم يمكث في المدينة"2، وقال عندما ذكر غزوة الخندق: "فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه"3، واستنبط من غزوة الحديبية دروساً منها: " استشارة الإمام لذي الرأي من أصحابه فيمن يوليه"4.

ودرج أصحابه على نهجه اقتداء وامتثالاً فجعل أبو بكر عمرَ رضي الله عنهما عنده عندما سير جيش أسامة ليستشيره ويكون عضداً له, وأسس عمر رضي الله عنه مجلساً للشورى, وكان يستشير ابن عباس رضي الله عنهما، ويقول له: "غُصْ غَوَّاص"5, مع أنه صغير السن، وكان يستشير الصغار ليربيهم على أمر الشورى.

 وكان الإمام الزهري رحمه الله يقول للفتيان: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم"6، وقال محمد بن سيرين رحمه الله: "إن كان عمر رضي الله عنه ليستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة؛ فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذ به"7، فقد استشار حفصة رضي الله عنها في قدر مكث الغازي في الثغر، وصبر أهله عنه، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً" رواه البخاري (4276).

وكان عمر رضي الله عنه يقول: "الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين، والثلاثة الآراء كالثلاثة لا تكاد تنقطع"8، وقال أيضاً: "شاور في أمرك الذين يخافون الله"9.

وللاستشارة فوائد كثيرة قال عنها ابن الجوزي رحمه الله: "ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها: أنه قد يعزم على أمر يتبين له الصواب في قول غيره فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح"10.

والاستشارة فيها استنباط للصواب، وحفاظ على النعم، وحزم في الأمر قال بعض الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر، و"قيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف وفينا واحد حازم، ونحن نشاوره ونطيعه؛ فصرنا ألف حازم"11، ويقول الإمام السعدي رحمه الله في فوائد الشورى: "ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول، ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الناس عقلاً، وأغزرهم علماً، وأفضلهم رأياً: {وشاورهم في الأمر}، فكيف بغيره؟!"12.

فالمشورة من صفات العاقل اللبيب، وهي تقوي الروابط بين المتشاورين، وتبعد عن النفس الغرور والإعجاب يقول الشيخ محمد الحمد: "فالعاقل اللبيب ذو الهمة العالية، والنظرة الثاقبة؛ لا يستبد برأيه، ولا يعتد بنفسه بحيث يقوده ذلك إلى ترك المشورة، بل إنه يشاور أهل العقول السليمة، والتجارب السالفة ممن يجمعون بين العلم والعمل، والنصح والديانة، فبالشورى تشحذ القريحة، وتتلاقح الفكر، وتنمى المعارف، وتقوى الأواصر بين المتشاورين، والشورى تنفي عن العبد الغرور والإعجاب بالنفس، وتفتح له الأبواب، وتزيل عنه الحيرة والاضطراب"13.

وبناء على ما تقدم من أهمية الشورى وعظيم نفعها؛ كان مما يندب ويحث عليه أهل الحي الواحد أن يكون لهم مجلس استشاري يحوي أهل العقل والفكر منهم، فيجتمع فيه أهل الخبرات والتخصصات فيبدون رأيهم فيما يهم الحي والمسجد، وكلٌ يتكلم في فنه، وهذه المشورة سبب للمؤاخاة بين أهل الحي  ، وهي أيضاً سبب للهداية في الأمر جاء في فتح الباري: "عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم"14، وقال بعض الحكماء: "ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول"15

إذا بلغ الرأي المشـــورة فاستعن         برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليـك غضاضةً          فإن الخــوافي قوة للقوادم

والخوافي: هو الريش الذي يختفي إذا ضم الطائر جناحيه، وهو قوة للقوادم، فالمستشير في الحقيقة يقوي نفسه لأنه سيستعين ويتقوى بآراء الآخرين.

  والمجلس الاستشاري الذي سيكون في الحي له عدة فوائد منها:

– الاجتماع الذي يؤدي إلى التكاتف، والأخوة، والترابط، وذلك مقصد إسلامي يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران:103).

– اجتماع الرأي والكلمة، وفي ذلك قوة للقرار الناتج عن هذا المجلس.

– تفوق أهل الحي في جميع المجالات، ففي المجلس الخبير بالطب، والخبير بالهندسة، والمعلم، وفي ذلك تجمع التخصصات التي يستفيد منها أهل الحي، وتكون المشورة عن علم.

– حل مشكلات الحي برمتها سواء مشكلات اجتماعية، أو اقتصادية أو غير ذلك، فيكون الرأي فيها معالجاً لكل جوانبها.

 * آلية تكوين هذا المجلس:

– يكون هذا المجلس عن طريق إمام المسجد فيجمع من يعلم من أهل العقول المفكرة، وأهل الخبرات.

– يحدد مكان للاجتماع، ويحبذ لو يكون في أحد مرافق المسجد، أو في بيت إمام المسجد.

– تطرح كل قضايا أهل الحي بالأولوية، وتناقش، وتعطى حقها، وتحال إلى مدير الاجتماع للتنفيذ.

– يعلن عن هذا المجلس رسمياً في المسجد.

– يحرص على إيجاد متخصص في كل فن، وأن يكون المتخصص أفضل الموجودين في الحي في مجاله، ويمكن الاستعانة بآخرين من أحياء مجاورة، أو بعيدة.

– لا بد أن يكون أهل المجلس أصحاب دين وأمانة حتى يكون الأمر ذا سداد وتوفيق من الله عز وجل.

هذا والله أعلم، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 نهاية الأرب في فنون الأدب (6/64) لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان – 1425هـ – 2004م الطبعة: الأولى.

2 زاد المعاد في هدي خير العباد (3/193) لابن قيم الجوزية، دار النشر: مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية – بيروت – الكويت – 1407هـ – 1986م، الطبعة: الرابعة عشر، تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط.

3 زاد المعاد (3/110).

4 زاد المعاد (3/669).

5 فضائل الصحابة (2/981) للإمام أحمد بن حنبل، دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت 1403 هـ- 1983، الطبعة: الأولى، تحقيق: د. وصي الله محمد عباس.

6 جامع بيان العلم وفضله (1/85) تأليف: يوسف بن عبد البر النمري، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت – 1398هـ.

7 كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (3/317)، تأليف: علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت – 1419هـ-1998م، الطبعة: الأولى، تحقيق: محمود عمر الدمياطي.

8 سراج الملوك للطرطوشي (1/63)، من موقع الوراق: (http://www.alwarraq.com).

9 كنز العمال (16/66).

10 الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/344- 345)، لابن مفلح المقدسي، دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت – 1417هـ – 1996م، الطبعة: الثانية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط / عمر القيام.

11 الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/347).

12 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/154)،للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت – 1421هـ- 2000م.

13 كتاب الهمة العالية، من موقع: (http://www.almoslim.net/node/83148).

14 فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/340) لابن حجر العسقلاني، دار النشر: دار المعرفة – بيروت، تحقيق: محب الدين الخطيب.

15 تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (1/21) لعبد الرحمن بن حسن الجبرتي، دار النشر: دار الجيل – بيروت.