كيف يحافظ الإمام على خُلُقِهِ

كيف يحافظ الإمام على خُلُقِهِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

يعتبر إمام المسجد من أبرز الشخصيات التي في المسجد، ولهذا كان على الإمام ما لم يكن على غيره، فالإمام ضامن لصلاة الناس، وهو مرجعهم في كثير من قضايا الدين، وله أثر كبير في حل الخلافات الحاصلة بين الناس، ومن هنا كان على الإمام لزوم فاضل الأخلاق ومحاسنها، والمحافظة على هذه الأخلاق، ومن أبرز ما يعينه على ذلك ما يلي:

1.   استشعار أهمية الأجر العظيم لمن حافظ على الأخلاق الفاضلة:

فقد جاء عن النبي  أحاديث كثيرة تدل على عظيم الأجر لمن تحلى بالأخلاق الحسنة، ومنها: عن أبي أمامة  قال: قال رسول الله  : أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه1، وعن أبي هريرة  أن النبي  قال: أكثر ما يلج به الإنسان النار الأجوفان: الفم، والفرج، وأكثر ما يلج به الإنسان الجنة: تقوى الله، وحسن الخلق2، وعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي  قال: إن الرجل ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم3، وكل هذه الأحاديث وغيرها تدل على الأجر العظيم للأخلاق

من يفعل الخير لا يعدم جوازيـه لا يهلك العرف بين الله والناس

2.  استشعار كونه قدوة للناس:

فالناس يرون في هذا الإمام القدوة الحسنة، فكل ما يفعله أو يقوله هو محل للتأسي والاقتداء، وإذا أخل الإمام بالأخلاق أثَّر ذلك سلباً على الناس، بل أدى بهم إلى أن ينتقصوه ويذموه، والأصل أن الإمام داعٍ إلى الله بأخلاقه قبل كل شيء، وهناك أمور وعادات قد تكون من قبيل المباح لكن لا يليق بمن كان إماماً فعلها، وذلك من باب الأخذ بمعالي الأمور كما جاء في الحديث أن النبي  قال: إن الله عز وجل يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها4 قال الإمام المناوي – رحمه الله -: “أي حقيرها ورديئها، فمن اتصف من عبيده بالأخلاق الزكية أحبه، ومن تحلى بالأوصاف الرديئة كرهه، وشرف النفس صونها عن الرذائل والدنايا، والمطامع القاطعة لأعناق الرجال، فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك”5، وقال الإمام الأوزاعي – رحمه الله -: “كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم”6، وقال الإمام الثوري – رحمه الله -: “لو صلح القراء لصلح الناس”7.

3. القراءة في سيرة النبي  والأنبياء السابقين:

فالقراءة في سيرة النبي  تعلم الإنسان المحافظة على الأخلاق، وكم هي المواقف التي كانت للنبي  مع قومه الكفار أو الأعراب أهل البادية في هذا الأمر، وعندما يقرؤها الإنسان تؤثر في نفسه، وتدعوه إلى الاقتداء به، بل الناظر إلى أخلاقه  مع أهله وأصحابه يجد أمراً عجيباً في ذلك؛ فهو كما وصفه الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:4).

ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء عن أنس بن مالك  قال: كنت أمشي مع النبي  وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي  قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه؛ فضحك، ثم أمر له بعطاء رواه البخاري (2916)، وعن عبد الله  قال: كأني انظر إلى النبي يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون رواه البخاري (3218).

4. النظر في أحوال السابقين من الصحابة والتابعين:

فالنظر في أحوالهم، وكيف كان حسن خلقهم، وتعاملهم؛ يؤثر على الإمام، ويجعل ذلك حافزاً له على الاستمرار في المحافظة على خلقه، ومهما أوذي أو واجه المصاعب والمتاعب من المصلين فإنه يعلم أنه قد سبقه إلى ذلك أقوام خير منه، وصبروا فأيدهم الله على مبغضيهم، ومن ذلك قصة سعد بن أبي وقاص  عندما قال عنه بعض الناس: إنه لا يحسن يصلي، فقد جاء عن جابر بن سمرة  أنه قال: شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر  فعزله، واستعمل عليهم عماراً، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه، ويثنون معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن. رواه البخاري (713).

5. مجالسة الصالحين، وطلب النصيحة منهم:

فالمجالسة الطيبة تعين الإمام على كسب الأخلاق الحسنة، والمحافظة عليها، فإن الإنسان مدني بطبعه، يؤثِّر ويتأثر، لذا كان عليه مجالسة الأخيار الذين يقومونه، ويعدلونه، ويعينونه على ذلك.

6. النظر في عاقبة شؤم الأخلاق:

فلو تفكر الإمام في العاقبة التي سيؤول إليها سوء الخلق؛ لأدى ذلك به إلى أن يترك الأخلاق السيئة، وأن يحافظ على أخلاقه الحميدة، ومن تأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ دعاه ذلك إلى أن يُقْصِرَ عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.8

7. علو الهمة في الأخلاق فهو مما يؤدي بالإنسان إلى الثبات على أخلاقه وملازمتها:

قال ابن القيم – رحمه الله -: “فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل”9، وقال أيضاً: “فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار، فالنفس الشريفة العليَّة لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها، وهذا معنى قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (الإسراء:84) أي على ما يشاكله ويناسبه، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته، وكل إنسان يجري على طريقته، ومذهبه، وعادته التي ألفها، وجُبِلَ عليها، فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي، والإعراض عن النعم، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر النعم، ومحبته، والثناء عليه، والتودد إليه، والحياء منه، والمراقبة له، وتعظيمه، وإجلاله”10.

8. المجاهدة:

فهي تنفع كثيراً في هذا الباب، ذلك أن الخلق الحسن نوع من الهداية يحصل عليه المرء بالمجاهدة قال ​​​​​​​ : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ (العنكبوت:69)، فمن جاهد نفسه على التحلي بالفضائل، والتخلي عن الراذئل؛ حصل له خير كثير، واندفع عنه شر مستطير، والأخلاق منها ما هو غريزي فطري، ومنها ما هو اكتسابي؛ يأتي بالدربة والممارسة.11

9. الإعراض عن الجاهلين:

فمن أعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه قال ​​​​​​​ : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف:199)، وبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع، قال بعض الشعراء:

إني لأُعْرِضُ عن أشيـاءَ أسْمَعُها حتى يقولَ رجالٌ إن بي حُمقَا
أخشى جوابَ سفيهٍ لا حيـاءَ له فَسْـلٍ وظنَّ أناسٍ أنه صدق12

هذه بعض الوسائل التي تعين الإمام على المحافظة على خلقه، ونسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه أبو داوود برقم (4167) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2648)، الناشر: مكتبة المعارف – الرياض، الطبعة الخامسة.

2 رواه أحمد (9696) وحسنه الأرنؤوط في تحقيقه المسند، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الأولى 1421 هـ – 2001م.

3 رواه أحمد (25013)، وصححه الأرناؤوط.

4 رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3 /210) برقم (2940) لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، ‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار النشر: دار الحرمين – القاهرة – 1415هـ.

5 فيض القدير شرح الجامع الصغير (2 /295) لعبد الرؤوف المناوي، دار النشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر – الطبعة الأولى 1356هـ.

6 الآداب الشرعية والمنح المرعية (2 /47) للإمام أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعمر القيام، دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية 1417هـ – 1996م.

7 الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/47).

8 الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة لمحمد الحمد.

9 الفوائد (144) شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، دار النشر: دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الثانية 1393 – 1973.

10 الفوائد (177-178).

11 الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة.

12 الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة.