لزوم السنة

لـزوم السـنة

 

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة حق قامت عليها السماوات والأرضين، وبها أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، ولأجلها انقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين، فمن سبقت له السعادة بالإيمان كان من الناجين، ومن تنكب عنها واتبع هواه كان من الهالكين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين. فلم يزل -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في تبليغ الدين، وهدي العالمين، وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل الكفر والبهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، فبلغت دعوته القاصي والداني، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً مقروناً بالرضوان.

أما بعد: فإن الله افترض على العباد طاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ومحبته وتوقيره والقيام بحقوقه، وسد الطريق إلى جنته فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.

فقام المسلمون بأداء ما افترضه الله عليهم من محبة نبيه وتوقيره وإكرامه وبره واتباعه وطاعته حق قيام، وظهر من حبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جعلهم يفدونه بكل عزيز وغال، ويؤثرونه على الأهل والأوطان والأموال، حتى باعوا أنفسهم وأموالهم لرب العالمين، نصرة لدينه، ودفاعاً عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ونشرا لهذا الدين في العالمين، فرضي الله عنهم أجمعين.1

أيها الناس:

إن الله تعالى أنزل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم ، وأوحى إليه مثله وهو السنة النبوية الشارحة والمبنية للقرآن، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)2، فقد أذن له أن يبين ما في القرآن من عموم أو خصوص أو إجمال، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (44) سورة النحل.

والسنة هي المصدر الثاني من مصادر الإسلام، وهي جميع ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح متصل إلى الرسول، من قول أو فعل أو تقرير أو وصف.

وهي وحي من الله إلى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتكلم عن هوى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (3-5 سورة النجم)، إنما يبلغ إلى الناس ما أمر به، قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (9 الأحقاف). والسنة المطهرة هي التطبيق الفعلي للإسلام أحكاماً وعقائد وعبادات ومعاملات وآداباً، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمتثل ما أمر به، ويبينه للناس، ويأمرهم أن يفعلوا مثل فعله كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (صلوا كما رأيتموني أصلي)3، وقد أمر الله المؤمنين أن يقتدوا به في أفعاله وأقواله، حتى يتم لهم كمال إيمانهم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21 سورة الأحزاب)، ونقل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله إلى من بعدهم، ونقلها هؤلاء إلى من بعدهم، ثم تم تدوينها في دواوين السنة..4

أيها المسلمون: لقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة على اتباع سنته ومجانبة البدع والمحدثات، كما ثبت في حديث العِرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه- قال: (وعظنا رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- موعِظة بليغة، ذرفتْ منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول اللَّه كأن هذهِ موعِظة مودع فما تعهده إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بِدعةٌ وكل بدعةٍ ضلالة).

رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.

وفي رواية له: (لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً..).

وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: "عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذَكر الله ففاضت عيناه من خشية ربه فيعذبه الله أبداً، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله، إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها، فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة، فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه، كما تحات عن تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم).5

ومن تأكيد النبي -صلى الله عليه وسلم- على لزوم سنته والتحذير من البدع والخرافات ما كان يفعله يوم الجمعة من أمر بذلك، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: (صبحكم ومساكم) ويقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول: (أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).6

وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله: "أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما أحدث المحدثون بعده، ممن قد حارب سنته، وكفوا مؤنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها – أو قال: دليل عليها- فعليك لزوم السنة، فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، وإنما كان عملهم على الأسد، ولو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لأنهم السابقون إلى كل خير، فإن قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، ورغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا".7

فالثبات الثبات يا عباد الله على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتزامها والتمسك بها، وترك ما ابتدعه الناس وأحدثوه في الدين ما لم يأذن به الله، نسأل الله تعالى أن يحيينا على سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يميتنا على ملته، وأن يجيرنا من مضلات الأهواء والفتن.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا إلى هذا وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

عباد الله: كما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بطاعته، حذرهم من الخروج عن سنته ورهبهم من تركها والإعراض عنها، فقال فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ومسلم عن أنس رضي الله عنهما: (من رغب عن سنتي فليس مني). وقال فيما أخرجه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وقد نبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على من يحاول رد السنة ورفضها بدعوى الاكتفاء بالقرآن. وذلك فيما أخرجه أحمد وأبو داود -واللفظ له- والترمذي عن أبي رافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه!).

وهذا الحديث من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم-، إذ ظهرت في الأمة طوائف تنكر السنة كلها أو بعضها بدعوى الاستغناء عنها بالقرآن وكان من أوائلهم الخوارج والروافض والمعتزلة حيث أثر عن هذه الطوائف إنكار لبعض الأحكام التي وردت في السنة.

وقد وجدت منهم عناصر في زمن الإمام الشافعي وناظر بعضهم، وتوالى ظهور من يدعو إلى مثل هذه الأفكار على مر التاريخ حتى عصرنا الحاضر، إذ وجدت فرقة تسمت باسم (القرآنيين)!!، قد ظهرت في الهند وباكستان، وسرت عدواها إلى مصر وغيرها من البلاد العربية.

وتذهب هذه الفرقة إلى إنكار السنة وحجيتها بدعوى الاكتفاء بالقرآن، واخترعوا ديناً جديداً لا مرجع فيه إلى السنة. وإنما اعتمدوا على القرآن بزعمهم، مدعين أن القرآن وحده كاف لإقامة الحياة الإسلامية وليست هناك حاجة إلى السنة!.8

قال الخطابي: فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما ليس له في القرآن، ذكر علي ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن، فتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. اهـ

قال أيوب السختياني: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل" ولا مراء أن الانحرافات بأشكالها المتعددة إنما نبتت على ساحة الفكر الإسلامي كنتيجة حتمية للإعراض عن الكتاب والسنة، وترك الاستهداء بنورهما الوهاج، فيكمن العلاج في الرجوع إليهما والاعتصام بهما، والأخذ بتوجيههما، ففيهما المنجاة من الغرق، والسلامة من مضلات الفرق.9

وعجب من هؤلاء المكتفين بالقرآن والتاركين للسنة، بأي فهم يفهمون القرآن، ومن أين لهم معرفة عدد الصلوات وأركانها وسننها، وكيف يعرفون تفاصيل الزكاة وأحكامها! وكيف يفعلون بالحج ومناسكه!

لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمثال هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم ويتركون سنة نبيهم وبين أنهم الأئمة المضلون الذين يفتنون الناس بتلبيسهم وخلطهم الحق بالباطل، فنعوذ بالله من الخذلان وتنكب الصراط المستقيم، واتباع سبيل من استهوته الشياطين فشغلته بالبدع عن السنن، وبالأهواء عن الحق المبين..

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم..

وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 محبة الرسول بين الاتباع والابتداع (ص 1-2). عبد الرؤوف محمد عثمان.

2 رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث صحيح.

3 رواه البخاري.

4 الإسلام أصوله ومبادئه (ج 1 / ص 165). لمحمد بن عبد الله السحيم.

5 الزهد والرقائق لابن المبارك، (ج 4 / ص 261).

6 رواه مسلم.

7 البداية والنهاية (ج 9 / ص 242).

8 محبة الرسول بين الاتباع والابتداع (ص 158- 161 بتصرف).

9 بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو (ج 1 / ص 426). مجموعة من العلماء.