نظرات في عالم الجن

نظرات في عالم الجن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:

فالجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة، بينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتصاف بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويخالفون الإنسان في أمور أهمها أن أصل الجان مخالف لأصل الإنسان.

وسموا جناً لاجتنانهم: أي استتارهم عن العيون، قال ابن عقيل: “إنما سمي الجن جنا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينا، وسمي المجن مجنا لستره للمقاتل في الحرب”، وجاء في محكم التنزيل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (27) سورة الأعراف.

إثبات وجودهم وأصلهم:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمداً إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك.

وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة بل مأمورون منهيُّون ليسوا صفات وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواتراً عن الأنبياء تواتراً ظاهراً تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة…”1

والأدلة على وجود الجن من القرآن كثيرة منها، ولا أدلَّ على ذلك من أن الله سمى سورة كاملة باسمهم “الجن ” وقص فيها من أخبارهم وأقوالهم الشيء الكثير، وأما أحاديث السنة الدالة على وجودهم فأكثر من أن تحصر.

قال ابن حجر -رحمه الله-: وقد أنكر كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية وجودهم، والحق أن وجودهم جائز عقلاً لعموم القدرة الإلهية، وشرعاً بالخبر المتواتر من القرآن والسنة، وأن الله خلق لهم من تيسر التصور في الهيئات ما خلق لنا من تيسر التصور في الحركات؛ فنحن إلى أي جهة شئنا ذهبنا، وهم في أي صورة شاءوا تيسرت لهم، ووجدوا عليها، ولا نراهم في هيئاتهم، إنما يتصورون في خلق الحيوانات.

وأصل خلقهم من ناركما قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (15) سورة الرحمن، وقد خلقهم الله تعالى قبل خلق الإنسان قال تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (27) سورة الحجر. أنواع الجن وتشكيلاتهم وصفاتهم: جاء من حديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الجن ثلاثة أصناف: فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون).2

ومن هذه الأصناف الثلاثة للجن: الصالح، والشيطان، والمارد، والمريد، والعفريت، يقول تعالى: في سورة الصافات: {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} (7) سورة الصافات. وفي سورة الحج: {وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ}، وفي سورة النمل: {قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أَمِينٌ}، ومنهم الطيار كما ورد في الحديث، ومنهم الغواص كما قال الله تعالى في سورة ص: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} (37) سورة ص. ومن الجن من دينه الإسلام، ومنهم الكافر اليهودي والنصراني والمجوسي وباقي الديانات الأخرى يقول تعالى في سورة الجن: {وَأَنّا مِنّا الصّالِحُونَ وَمِنّا دُونَ ذَلِكَ كُنّا طرائق قِدَداً} (11) سورة الجن. ويقول: {وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} (14) سورة الجن، ومنهم العاقل الذكي ومنهم المغفل الغبي، يقول تعالى: {وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَْ} الأنعام: 38 والجن الطيار هو نوع من أنواع الجن يطير في الهواء كما تطير الطير في السـماء، يقطع المسافات بسرعة عالية والبعض يسميه الريحاني نسبة للريح قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (48) سورة الأنفال، وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعت قريش بدار الندوة، هل يقتلون الرسول، أو يحبسونه، أو يخرجونه، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال.3 قال ابن حجر -رحمه الله-: “واختلف في صفتهم، فقال أبو يعلى بن الفراء: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافاً للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها. وهو مردود، فإن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية، ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها.4

وروى ابن عبد البر عن وهب بن منبه أن الجن أصناف: فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، وجنس منهم يقع منهم ذلك، ومنهم السعالي والغول والقطرب، وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين الأولين، ويؤيده ما روى ابن حبان والحاكم من حديث أبي ثعلبة الخشني السابق الذكر.5

تكليفهم:

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، فدلت الآية على أن الغاية التي لأجلها خلق الجن والإنس هي العبادة، فهم مكلفون بها. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الثقلين الإنس والجن قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمداً إلى جميع الثقلين الإنس والجن وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته وان يحللوا ما حلل الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمداً إليهم، وقال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون، وإذا تقرر كونهم مكلفين فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام، وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وأنهما زاد الجن.6

وإذا ثبت أنهم مكلفون فهم مثابون على الطاعة مستحقون العقاب على المعصية، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (15) سورة الجن، وقال أيضاً: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} (16) سورة الجن. أسماء الجن عند العرب:

1- إذا ذكروا الجن خالصاً قالوا: جني.

2- وإذا أرادوا أنه مما يسكن مع الناس قالوا: عامر.

3- فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا: أرواح.

4- فإن خبث وتعرض قالوا: شيطان.

5- فإن زاد على ذلك فهو مارد.

6- فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا: عفريت والجمع: عفاريت.

طعام الجن وشرابهم ونكاحهم ومساكنهم:

وللجن طعام يطعمون منه وشراب يشربون منه فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله علية وسلم قال: (أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن) قال عبد الله: فانطلق رسول الله صلى الله علية وسلم بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد فقال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم).7

وهذا بعض طعامهم وطعام دوابهم. وتحول العظم إلى أوفر ما يكون لحما، وكذلك الروث إلى علف للدواب مختص بالمؤمنين فحسب. أما الكفّار من الجن فليس لهم ذلك، بل هم يستحلون كل طعام لم يذكر اسم الله عليه، كما في الحديث: (إن الشيطان يستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه).8

ومما يمنع الشياطين من تناول طعام الأنس ذكر اسم الله عليه، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله علية وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء).9،10

وأما عن نكاحهم فقد استدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (74) سورة الرحمن، وبقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي} (50) سورة الكهف، والدلالة من ذلك ظاهرة. واعتل من أنكر ذلك بأن الله تعالى أخبر أن الجان خلق من نار، وفي النار من اليبوسة والخفة ما يمنع معه التوالد.

والجواب أن أصلهم من النار كما أن أصل الآدمي من التراب، وكما أن الآدمي ليس طيناً حقيقة كذلك الجني ليس ناراً حقيقة، وقد وقع في الصحيح في قصة تعرض الشيطان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فأخذته فخنقته حتى إني لأجد برد لسانه على ظهر كفي).11

وأما مساكنهم فيكثر تجمعهم في الخراب ومواضع النجاسات كالحمامات والمزابل، قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الحشوش12 محتضرة13، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث).14 وينبغي أن يعلم أن عالم الجن من عالم الغيب، لا نعلم عنه إلا ما أعلمنا الله تعالى عنه، في كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وعلى هذا فلا نستطيع أن نتكلم عنهم بشيء إلا بما ورد في النصوص الشرعية، وما عدا ذلك يبقى خافياً علينا، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء.

وقد يخبر الجن من خلال تلبسهم بالإنس بأمور تؤكد ما جاء في النصوص الشرعية السابقة وغيرها، فهذا يؤكد للإنسان صدق الرسالة والرسول ولا مانع من كون ذلك يزيد الإنسان يقينا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم كونه يخبر بالغيب، مع أن الشريعة الإسلامية كلها حق، ولكن ليس الخبر كالمعاينة، كما في قصة موسى في طلبه رؤية الله، وإبراهيم في ذبحه الطير، ولم يكن ذلك شكا أو ظناً بل زيادة في اليقين. ولهذا فإن ما يخبر به الجن عن طريق تلبسهم في الإنس هو حق إذا وافق النصوص الشرعية، ويبقى ما يخبرون به عن عالمهم وحالهم ولم ترد به النصوص الشرعية تحت الظن الذي يحتمل الصدق والكذب، إذ أن الأغلب على أخبارهم الكذب، وعهودهم النقض، ولا يستطيع المسلم التخاطب مع من لا يراه ولا يعلم حاله، إلا بما ظهر لنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

وللتوسع في هذا الموضوع يراجع كتاب “عالم الجن والشياطين” للدكتور عمر سليمان الأشقر.

هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (19/10).

2 أخرجه ابن حبان والحاكم، وأورده السيوطي في الجامع الصغير رقم 365، قال الأرنؤوط: إسناده قوي.

3 مجموع الفتاوى (19/44).

4 فتح الباري لابن حجر (10/79) بتصرف.

5 التمهيد لابن عبد البر(11/117).

6 فتح الباري لابن حجر (10/79) بتصرف.

7 رواه مسلم (450).

8 رواه مسلم (2017).

9 رواه مسلم (2018).

10 نقلاً عن موقع الشبكة الإسلامية، بتصرف.

11 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (6418)، وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن. 

12 الحشوش: هي أماكن قضاء الحاجة.

13 محتضرة: أي يحضرها الجن.

14 رواه أبو داود (6) وصححه الألباني انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1070).