قيام رمضان

قيام رمضان

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، أما بعد:
فـ”لقد شرع الله لعباده العبادات ونوَّعها لهم ليأخذوا من كل نوع منها بنصيب، ولئلا يملوا من النوع الواحد فيتركوا العمل فيشقى الواحد منهم ويخيب، وجعل منها فرائض لا يجوز النقص فيها ولا الإخلال، ومنها نوافل يحصل بها زيادة التقرب إلى الله والإكمال. فمن ذلك الصلاة: فرض الله منها على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، خمساً في الفعل وخمسين في الميزان، وندب الله إلى زيادة التطوع من الصلوات تكميلا لهذه الفرائض وزيادة في القُربى إليه”1.
ومن هذه النوافل: قيام الليل، فإن ذلك مما جاء الحث عليه في الكتاب والسنة، وتأكيد استحبابه، قال سبحانه: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا2، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (… وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)3، وفي حديث عبد الله بن سلام في قصة قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: (يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)4.
ولكن قيام الليل أشد استحباباً في رمضان؛ فعن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)5، و”معنى: (إيماناً) تصديقا بأنه حق مقتصد فضيلته ومعنى: (احتسابا) أن يريد الله- تعالى- وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص”6.
ومن صلاة الليل: الوتر، وله كيفيات متعددة، فللإنسان أن يُوتِر بركعة واحدة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)7. وله أن يوتر بثلاث يسردها بسلام واحد؛ لما روى الطحاوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أوتر بثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن. وإن أحب صلّى ركعتين وسلم ثم صلى الثالثة لما روى البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى كان يأمر ببعض حاجته.
ويوتر بخمس فيسردها جميعا لا يجلس ولا يسلم إلا في آخرهن؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من أحب أن يوتر بخمس فليفعل).8 وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن9. ويوتر بسبع فيسردها كالخمس؛ لقول أم سلمة-رضي الله عنها-: “كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام”10.
ويُوتِر بتسع فيسردها لا يجلس إلا في الثامنة، فيقرأ التشهد ويدعو ثم يقوم ولا يسلم فيصلي التاسعة ويتشهد ويدعو ويسلم؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- في وِتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: “… ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا”11.
ويصلي إحدى عشرة ركعة، فإن أحب سلَّم من كل ركعتين وأوتر بواحدة لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة”.12 وإن أحب صلى أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا”13.
فهذه كلها كيفيات متعددة جاءت بها السنة، وهي تكاد تكون من السنن المهجورة.
ومن قيام رمضان أن يجتهد الإنسان في تحري ليلة القدر فإن من وفق لقيامها فقد حاز على الخير الكثير؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه…)14، وقد سبق بيان معنى: (إيماناً واحتساباً). لقد تفنن السلف الصالح في قيام الليل، فمنهم من أمضى الليل راكعاً، ومنهم من قطعه ساجداً، ومنهم من أذهبه قائماً. منهم التالي الباكي، ومنهم الذاكر المتأمل، ومنهم الشاكر المعتبر. لماذا أقفرت بيوتنا من قيام الليل؟ لماذا خوت من التلاوة؟ لماذا شكت منازلنا من قلة المتهجدين؟.
أيا دار سلمى كنت أول منزل
نزلنا فلم نشهد به رفقة مضت
نزلنا به والركب ضجت بلابله
فسال من الدمع المكتـم عاجله
إذا أظلم الليل نامت قلوب الغافلين، وماتت أرواح اللاعبين، حينها تحيى القلوب المؤمنة، وتسهر العيون الخائفة.
نامت الأعيـن إلا مقلـة
تذرف الدمع وترعى مضجعك
ما كنا نظن أن جيلاً من المسلمين يسهر على البلوت والشطرنج والغناء وقلة الحياء، فرحماك يا رب!.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع
عُبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم
القوم هم ما لهم في الناس أشباه
كم عابد دمعه في الخد أجراه15
كيف ينام من يتذكر رقدة القبور، وطول الوقوف بين يدي القوي القهار، والعزيز الغفار؟!، قال العلامة ابن القيم-رحمه الله-: “للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه؛ فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا16.17، ولقد قرأنا أن بعض السلف كان يطيل وقوفه بين يدي الله في الصلاة رجاء أن يخفف عنه الوقوف بين يديه في العرصات.
نسأل الله أن يعيننا على صيام رمضان وقيامه، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يتجاوز عن السيئات والآثام. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

1 انظر: مجالس شهر رمضان ص(16). للعلامة ابن عثيمين. دار المجتمع للنشر والتوزيع. 2 سورة الفرقان (64).

3 رواه مسلم.

4 رواه ابن ماجه، وقال الألباني: “صحيح”.

5 متفق عليه.

6 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج(6/39). للنووي. الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت. الطبعة الثانية (1392).

7 رواه أبو داود والنسائي، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح أبي داود، رقم(1260).

8 المصدر السابق، وهو جزء من الحديث السابق.

9 رواه البخاري ومسلم.

10 رواه أحمد والنسائي وأبو يعلى، وقال حسين سليم أسد في التعليق على مسند أبي يعلى: (إسناده صحيح). وذكر الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد أن: (إسناده ضعيف لانقطاعه. مقسم -وهو أبو القاسم مولى ابن عباس- لم يسمع من أم سلمة). والله أعلم.

11 رواه مسلم.

12 رواه مسلم.

13 رواه البخاري ومسلم، وانظر: مجالس شهر رمضان لابن عثيمين، صـ(17). وللاستزادة من كيفيات صلاة الوتر، راجع: زاد المعاد في هدي خير العباد(1/317). لابن القيم. الناشر : مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية- بيروت– الكويت. الطبعة الرابعة عشرة (1407). تحقيق : شعيب الأرناؤوط – عبد القادر الأرناؤوط.

14 رواه البخاري.

15 ثلاثون درساً للصائمين، صـ(22). لعائض القرني. دار الوطن للنشر.

16 الفوائد (200). الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الثانية (1393).

17 سورة الإنسان (26-27).