مع قادة النصر ساعة

مع قادة النصر ساعة

 

الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:

لن أتكلم عن شعراء متخيلون، ولا تجار منعَّمون، ولا كتَّاب متصنعون، ولا خطباء ثرثارون، ولا فلاسفة هائمون، بل حديثي هنا عن أبطال الأمة، وشجعان الدنيا، وعمالقة الحرب، وقُوَّاد النصر، ولعلي أن أبتدئ بقاضي القضاة، وشيخ الفتيا:

أسد بن الفرات – رحمه الله -:

ولد أسد بن الفرات عام 145هـ، وتفتح عقله على العلم، وحلّق فكره في الفقه، فكان في صدر شبابه لا يعرف إلا العلم والدرس والتحصيل، وكان يعتز باسمه واسم أبيه وجده، فيقول: "أنا أسد وهو خير الوحوش، وأبي الفرات وهو خير المياه، وجدي سنان وهو خير السلاح".

كان – رحمه الله – بطل من أبطال الإسلام، وعلم من أعلام الفقه، ورائد من رواد القضاء، كان في القضاء عادلاً، وفي الفقه معلماً، وفي الحرب قائداً، لم يمنعه تقدم السن، وأعباء الحياة؛ من أن يترك حلقات العلم والحكم، وأن يودع القلم والمحبرة ليتفرغ لقيادة المجاهدين، وتأديب الغادرين، ورفع راية الإسلام.

نعم، إنه أسد بن الفرات بن سنان من حرّان بديار بكر.

هو المجاهد الشهيد:

الذي ورث حب الجهاد عن أبيه الذي كان أمير المجاهدين في حرَّان، وحمل ولده الصغير "أسد" وخرج به مجاهداً فى سبيل الله، فشب عالماً نابهاً، وجندياً جريئاً، وبحاراً مغامراً، حتى أنه في سن الشباب وقبل أن يقوم برحلته العلمية المشهورة اشترك فى العديد من المعارك البحرية في مياه البحر المتوسط يقول العلامة ابن خلدون أن أسد بن الفرات: "هو الذى افتتح جزيرة "قوصرة" وهي جزيرة صغيرة تقع شرقي تونس الآن، حيث كانت أفريقية أو تونس واقعة تحت حكم دولة الأغالبة التي استقلت بحكم البلاد منذ سنة184هجرية، ولكنها كانت تابعة للدولة العباسية، وكانت هذه الدولة في بداياتها معنية بأمر الجهاد، ونشر الإسلام، فاتجه ولاة هذه الدولة بأبصارهم ناحية الجزر الكبرى الواقعة في منتصف البحر المتوسط مثل جزيرة صقليه، وكورسيكا، وسردانيه، وغيرها، ولكن التركيز الأكبر كان على جزيرة صقلية.

وجاء فتح صقلية:

لأنها كانت تعتبر من أكبر جزر البحر المتوسط مساحة، وأغناها من حيث الموارد الاقتصادية، وأفضلها موقعاً، ولقد انتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكراً منذ عهد الصحابة حيث حاولوا فتحها فى عهد عبد الله بن سعد – رضي الله عنه -، ثم معاوية بن حديج، ثم عقبة بن نافع، ثم عطاء بن رافع، وكان آخرهم عبد الرحمن بن حبيب وذلك سنة 135هجرية، ثم وقعت الفتن الداخلية ببلاد المغرب بين العرب والبربر، وانشغل المسلمون عن جهاد العدو الذي انتهز الفرصة، وأغار على سواحل المغرب عند منطقة إفريقية؛ مما جعل المسلمون يتوحدون، ويتهيؤون للرد على هذا العدوان البيزنطي.

في هذه الفترة وقعت العديد من الاضطرابات بجزيرة صقلية التي كانت تتبع الدولة البيزنطية، حيث وقع نزاع على حكم الجزيرة بين رجلين أحدهما اسمه "يوفيميوس" وتسميه المراجع العربية "فيمي"، والآخر اسمه "بلاتريوس"، وتسميه المراجع العربية "بلاطه"، وانتصر "بلاطه" على "فيمي" الذي فرَّ هارباً إلى إفريقية، واستغاث بزيادة الله بن الأغلب حاكم إفريقية، وطلب منه العون في استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة، وحينها استنفر "زيادة الله" الناس للجهاد، وفتح صقلية، فهرعوا لتلبية النداء، وجمعت السفن من مختلف السواحل، وبحث ابن الأغلب عمن يجعله أميراً لتلك الحملة البحرية الكبيرة فلم يجد خيراً ولا أفضل من الأسد الهصور، والبطل المقدام "أسد بن الفرات" على الرغم من كبر سنه في هذه الفترة في ربيع الأول 212 هجرية أي سبعين عاماً، وكان هذا الاختيار دليلاً على فورة المشاعر الإسلامية في هذه الفترة، والأثر الكبير لعلماء الدين الربانيين على الشعب المسلم، وكان أسد بن الفرات يبدى رغبته فى هذه الغزوة كواحد من المسلمين؛ لأنه كان محباً للجهاد، عالماً بمعاني ومقتضيات آيات النفرة فى سبيل الله، ودور العلماء فى ذلك، وأيضاً كان يكره الشهرة والرياء، ولكن ابن الأغلب أصرَّ على أن يتولى قيادة الحملة العسكرية، وأن يكون قاضياً للحملة – أي جمع له القيادة الميدانية والروحية -؛ لعلمه بمكانة أسد بن الفرات، وأثره في الناس، وحبهم له.

جهاد حتى الممات:

خرج أسد بن الفرات من القيروان في حملة عسكرية كبيرة قوامها عشرة آلاف من المجاهدين المشاة، وسبعمائة فارس بخيولهم فى أكثر من مئة سفينة كبيرة وصغيرة، خرجت من ميناء سوسة على البحر المتوسط، وسط جمع عظيم من أهل البلد الذين خرجوا لتوديع الحملة المجاهدة.

وتحرك الأسطول الإسلامي يوم السبت 15 ربيع الأول سنة 212 هجرية متجهاً إلى جنوبي جزيرة صقلية، وبالفعل وصلت الأساطيل المسلمة إلى بلدة "فازر" في طرف الجزيرة الغربي بعد ثلاثة أيام من الإبحار أي يوم الثلاثاء، ونفذ أسد بن الفرات على رأس جنده إلى شرقي الجزيرة، وهناك وجد قوة رومية بقيادة الثائر "فيمي" الذي طلب مساعدة "ابن الأغلب" لاستعادة حكمه على الجزيرة، وعرض "فيمي" على "أسد بن الفرات" الاشتراك معه في القتال ضد أهل صقلية، ولكن القائد المسلم العالم بأحكام شريعته، المتوكل على الله – عز وجل -؛ رفض الاستعانة بالمشركين تأسياً بالنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي رفض الاستعانة باليهود يوم أحد.

قبل بداية المعركة:

تجمع الناس حول القائد البطل أسد بن الفرات – رحمه الله تعالى – ما بين مودع وداع، ووصل الركب إلى بسوسة، وكان يوماً من الأيام المشهورة في تاريخ الإسلام، حيث تجمع المجاهدون يرتقبون الساعة الفاصلة التي تنطلق فيها السفن للقاء أعداء دين الله، وأخذ الجند أماكنهم، وارتفعت الأعلام، ودقت الطبول، ووقف القائد القاضي أسد بن الفرات مكانه بينهم، وكان على القائد في ذلك الوقت أن ينزع الخوف من قلوب جنده، وأن يطرحوا التردد جانباً، ويقبلوا على المعركة مستبسلين لا يخافون ولا يرهبون الردى.

وقف القائد يخطب في جنده – وكان صاحب رأي مسموع، وبيان مبدع -، وأخذ يحض المجاهدين، ويبين لهم درجة الاستشهاد، وكأنما أراد بذلك أن يقول لهم بفعله لا بقوله، فالجهاد لا يعرف السن، فكم من رجال في تاريخ الإسلام خط الشيب رؤوسهم، وقوست الأيام ظهورهم؛ وهم مع هذا لم يقعدوا عن الجهاد وأداء الواجب.

وقف القائد يحض المجاهدين على القتال فهو يرى في النصر شفاء لصدور المؤمنين، وقف القائد فقال: "أيها الناس: واللهِ ما وُلي لي أب ولا جد ولاية قط، وما أرى من سلفي ما رأيت، ولا بلغ ما بلغت، وكل الذي أعدني وهيأني قلمي وعلمي، فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب الحق، وفي تدوين العلم، وكابدوا وصابروا على كل الشدائد، فإنكم بذلك تنالون فخر الدنيا، وسعادة الآخرة"؛ فذكرهم بالجنة وموعود الله – عز وجل – لهم بالنصر والغلبة وهو يحمل اللواء في يده، ثم أخذ يتلو آيات من القرآن، ثم اندفع للقتال.

وفي ساعة الصفر:

التحم الجيش الصقلي الجرار مع الجيش الإسلامي، واندفع المسلمون من ورائه، ودارت معركة طاحنة لا يسمع منها سوى صوت قعقعة السيوف، وصهيل الخيول، والتكبير الذى يخترق عنان السماء، والأسد العجوز أسد بن الفرات الذي جاوز السبعين يقاتل قتال الأبطال الشجعان، حتى أن الدماء كانت تجري على درعه ورمحه من شدة القتال، وكثرة من قتلهم بنفسه وهو يقرأ القرآن، ويحث الناس، وتمادت عزائم المسلمين حتى هزموا الجيش الصقلي شرَّ هزيمة، وفرَّ بلاطه من أرض المعركة، وانسحب إلى مدينة "قصريانة"، ثم غلبه الخوف من لقاء المسلمين ففر إلى "إيطاليا" وهناك قتل على يد بني دينه بسبب جبنه وإحجامه عن قتال المسلمين.

وبعد الانتصار الحاسم:

واصل أسد بن الفرات – رحمه الله تعالى – زحفه حتى وصل إلى مدينة "سرقوسة"، ومدينة "بلرم"؛ فشدد عليها الحصار، وجاءته الإمدادات من "إفريقية"، واستطاع أسد بن الفرات أن يحرق الأسطول البيزنطي الذي جاء لنجدة "بلرم"، وأوشكت المدينة على السقوط، ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان؛ حيث حلَّ بالمسلمين وباء شديد (أغلب الظن أنه الكوليرا أو الجدري) فهلك بسببه عدد كبير من المسلمين فى مقدمتهم القائد المقدام "أسد بن الفرات".

واستشهد القائد العظيم، وصعدت روحه الطاهرة لتحتل مكانها بين الصديقين والشهداء والصالحين – بإذن الله تعالى -، وحسن أولئك رفيقاً.

استشهد أسد بن الفرات تاركاً لخلفه إتمام ما بدأ به، ولاقى حمام الموت مرابطاً مجاهداً بعيداً عن أهله وبيته، وحلق دروس العلم، مجافياً لفراشه وداره، مؤثراً مرضات ربه ونصرة دينه، وذلك فى شعبان سنة 213 هجرية، فجمع بين خصال الخير كلها من علم وورع، وجهاد وشهادة، فيا ليت علماء الأمة يتعلمون شيئاً من سيرة هذا البطل الذى سقط من ذاكرة كثير المسلمين في الوقت الحاضر؟

يا سبحان الله!! من كان يظن أن هؤلاء الأعراب رعاة الإبل، وسكان الخيام، الذين تربوا في الصحراء؛ سيصبحوا بين عشية وضحاها سادة الدنيا، وأساتذة العالم، ومهد الحضارة والحرية، وأهل الفكر والسياسة.

عجباً لهؤلاء الأبطال الذين بذلوا أرواحهم لله، وجادوا بكل ما يملكون لله!

عجباً لهؤلاء الذين أرغموا أنف الحوادث، وغيروا مجرى التاريخ!

ما قرأ إنسان منصف تاريخهم إلا فاضت عيناه، وما عاش إنسان معهم بأحاسيسه ومشاعره إلا كان الموت أحب إليه من الحياة.

لقد كان هؤلاء في الذروة العليا من قوة الروح، والإيمان العميق، إيمان بأن النفس لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها.

وهذا مثلٌ نقدمه للقاضي المسلم التقي الذي تربى على مائدة القرآن الكريم، وتخرج من مدرسة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وقدم نفسه للتضحية والفداء.

نقدم هذا المثل ليعلم الخلف عن السلف كيف تُضرَب الأمثال في الفداء والتضحية والاستشهاد في سبيل الله.

في تاريخ هذا الرجل المجاهد الشهيد، والقاضي المؤمن، والشجاع الأبيّ أسد بن الفرات ندرك سر خلود أبطالنا المؤمنين المجاهدين الصادقين.

في تاريخ هذا القاضي القائد عظمة المجاهدين، وعبقرية الفاتحين.

تاريخ هذا البطل الشهيد – بإذن الله – يجب أن يلقنه الأجداد للأحفاد، ويرويه الآباء للأبناء.

اللهم اجعلنا نسير على هديهم، ونقتفي أثرهم، ونحشر يوم القيامة معهم، والحمد لله أولاً وآخراً.